التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
٥
إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
٦
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٧
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ
١٢
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
١٣
ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ
١٤
-المؤمنون

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } إلى قوله: { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }.
أي: والذين يحفظون فروج أنفسهم فلا يستعملونها في شيء إلا في أزواجهم التي أحلها لهم النكاح، أو في ملك أيمانهم، يعني: الإماء، فليس يلامون على ذلك.
ثم قال: { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ }.
أي: فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه، فهم العادون حد الله، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
قال ابن عباس: الزاني من العادين. وقاله عطاء.
قال ابن زيد: { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } يقول: الذين يبعدون من الحلال إلى الحرام.
وقال الزهري سألت القاسم بن محمد عن المتعة، فقال: هي محرمة في كتاب الله، ثم تلا. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ... } إلى قوله: { ٱلْعَادُونَ } أي: فمن طلب سوى أربع نسوة وما ملكت يمينه فهو متعد إلى ما لا يحل له. وهذه الآية عمت تحليل الأزواج وملك اليمين على كل حال، وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين اختلاف، وكذلك الجمع بين المملوكة وعمتها، وبين المملوكة وخالتها، وفيها تخصيص بالتحريم لوطإ الحائض، وتحريم وطئ الأمة إذا زوجت وتحريم وطئ المظاهر منها حتى يكفر.
ثم قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }.
أي: يقومون على حفظ أماناتهم وعهدهم ويرعون ذلك.
قيل: عنى بالأمانات هنا، الصلاة والطهر من الجنابة وجميع الفرائض.
وقيل: هو عام في كل أمانة.
وأصل الرعي في اللغة القيام على إصلاح ما يتولاه الراعي لأحواله.
ثم قال: { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }.
أي: يحافظون على وقتها وأدائها / بحدودها، لا يفوتهم وقتها.
وقال النخعي: "يحافظون" يداومون على أداء المكتوبة.
ثم قال تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ }.
أي: أولئك الذين تقدمت صفتهم هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار في الجنة.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما منكم أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. قال: فذلك قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ }" .
قال أبو هريرة: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله.
وقال مجاهد يرث [الذي] من أهل الجنة، أهله وأهل غيره، ومنزل الذي من أهل النار. فهم يرثون أهل النار، فلهم منزلان في الجنة وأهلان، وذلك أن له منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فأما المؤمن فيبني منزله الذي في الجنة، ويهدم منزله الذي في النار، وأما الكافر فيورث منزله الذي في الجنة، ويبني منزله الذي في النار.
وروى عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لقد أنزلت عَليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" .
يعني: من قام عليهن ولم يخالف ما فيهن، يعني: ثمان آيات في أول هذه السورة، وآيتين فيهما فرض الصوم والحج.
ثم قال: { ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
أي: يرثون الجنة، مقامهم دائم فيها.
والفردوس عند العرب، البستان ذو الكرم.
وروى قتادة عن أنس أن الفردوس ربوة الجنة، أو وسطها وأفضلها.
وقال كعب: خلق الله جلّ ذكره بيده جنة الفردوس، وغرسها بيده، ثم قال لها: تكلمي، فقالت: "قد أفلح المؤمنون".
وقال داود بن بقيع لما خلقها الله قال لها: تزيني، فتزينت.
ثم قال لها: تكلمي، فقالت: طوبى لمن رضيت عنه.
وقال أحمد بن حنبل في كتاب التفسير: إن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل جبالها المسك الأذفر.
وعن أبي هريرة أنه قال:
"الفردوس جبل في الجنة من مسك تفجر من أصله أنهار [أهل] الجنة" .
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجنة مائة درجة، أعلاها وأوسطها الفردوس، ومنها تفجر أنهار الجنة" .
ثم قال تعالى ذكره: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ }.
يعني: آدم استل من الطين. والسلالة: القليل منه، وكذلك باب الفعالة، يأتي للتقليل من الشيء، كالقلالة والنخالة، فالسلالة المستلة من كل تربة فكان خلق آدم عليه السلام من تربة أخذت من أديم الأرض، وخلقت حواء من ضلعه.
وقيل: خلقت من فضلة طين آدم.
قال قتادة: استل آدم من الطين، وخلقت ذريته من ماء مهين.
وقيل: معناه، ولقد خلقنا الإنسان، يعني: ولد آدم من سلالة، وهي النطفة استلت من ظهر الرجل "من طين" وهو آدم الذي خلق من طين، وهو قول مجاهد، وهو اختيار الطبري. كأنه قال: ولقد خلقنا ولد آدم من سلالة آدم. وآدم: هو الطين، لأنه منه خلق، ودل على صحة هذا المعنى قوله: { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }. وآدم لم يكن نطفة، إنما كان ولده نطفة، فدل على أن المراد بالإنسان ولد آدم، دون آدم. فالطين كناية عن آدم، كأنه قال: خلقنا ولد آدم من سلالة والسلالة من طين، أي: من آدم.
والعرب تسمى ولد الرجل ونطفته سليلته وسلالته لأنه مسلول منه.
قال ابن عباس: السلالة، صفوة الماء.
وقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }.
أي: ثم جعلنا الإنسان الذي خلقناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين، يعني: الرحم، وسمي "مكين" لأنه مكن لذلك، وهيء له ليستقر فيه إلى بلوغ أمره.
ثم قال: { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً }.
أي: قطعة من دم { فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً }، وهي القطعة من اللحم، وسميت مضغة لأنها قدر ما تمضغ { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً }.
أي: كل عضو عظم، { فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً } أي: ألبسنا كل عظم لحماً.
ثم قال: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ }.
أي: أنشأنا الإنسان خلقاً آخر.
وقيل: المعنى، ثم أنشأنا / هذا الخلق المتقدم ذكره وانتقاله خلقاً آخر، وهو نفخه الروح فيه، فيصير إنساناً، وكان قبل ذلك صورة، هذا قول: ابن عباس وأبي العالية والشعبي وابن زيد.
وقال ابن عباس: هو انتقاله في الأحوال بعد الولادة من الطفولة إلى الصبا إلى الكهولة، ونبات الشعر وخروج السن وغير ذلك من الأحوال.
وقال قتادة قيل: هو نبات الشعر وقيل هو نفخ الروح.
وقال مجاهد: هو استواء شبابه.
وقيل: هو خلقه ذكراً أو أنثى.
وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال:
"إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح" .
وروي: أن النطفة تقيم في الرحم أربعين يوماً نطفة، ثم تصير علقة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير مضغة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير عظاماً مكسواً لحماً، وذلك في تمام أربعة أشهر، ثم في العشر الأول من الشهر الخامس يصور وينفخ فيه الروح ويتحرك، ولذلك جعل الله عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، لأنها تعلم في ذلك هل في جوفها حمل أو لا، إذ مدة تحرك المولود في البطن أربعة أشهر وعشر، فإذا تحرك، انتقلت عدتها إلى أن تضع حملها.
ثم قال: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } أي: أحسن الصانعين قاله مجاهد.
ويروى: أن هذا مما تكلم به عمر قبل أن ينزل، فنزل على ما قاله عمر و "تبارك" تفاعل من البركة.
وقال ابن جريج: كان عيسى يخلق بأمر الله تعالى فلذلك قال: { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }.
وقال مجاهد: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين، وهذا اختيار الطبري. لأن العرب تسمي كل صانع خالقاً. قال الشاعر، وهو زهير:

ولأَنْتَ تَفْرِيَ ما خَلقْتَ وَبَعْـ ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْري.

أي: ما صنعت.
وقيل: معناه، أحسن المقدرين. فالناس يقدرون. ولا يتم ما يريدون لعجزهم والله يتمم ما يقدر، فهو خير المقدرين.
وقيل المعنى، أن المشركين صنعوا تماثيل ولا ينفخون فيها الروح فخلق الله آدم ونفخ فيه الروح، فهو أحسن الصانعين، إذ لا يطيق أحد نفخ الروح غيره.
ورويَ: أن عمر بن الخطاب لما سمع الآيات إلى قوله: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } قال: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }. فنزلت { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }.