التفاسير

< >
عرض

إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ
٢٥
قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
٢٦
فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٢٧
فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢٨
وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ
٢٩
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
٣٠
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٣١
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٣٢
وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
٣٣
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
٣٤
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ
٣٥
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
٣٦
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
٣٧
-المؤمنون

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } إلى قوله: { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }.
أي: قال أشراف قوم نوح: ما نوح إلا رجل به جنون { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ } أي: تمهلوا به إلى وقت ما.
قال نوح: { رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } أي: بتكذيبهم إياي. دعا صلى الله عليه وسلم واستنصر بالله لما طال عليه أمرهم وأبوا إلا تكذيبه.
ثم قال تعالى: { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }.
أي: فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع الفلك بمرأى منا وتعليم لك بما تصنع. { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } أي: قضاؤنا في قومك بالعذاب والهلاك. { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } قد تقدم في "هود" ومعنى "فار التنور". وقد قال علي بن أبي طالب: "فار التنور" من مسجد الكوفة.
وعنه أنه قال: "فار التنور" هو تنوير الصبح.
قال الضحاك: كان التنور آية فيما بين الله وبين نوح، قال له: إذا رأيت الماء قد خرج من التنور فاعلم أن الهلاك والغرق قد أتى قومك.
ثم قال: { فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ }.
أي: فادخل في الفلك، يقال سلكته في كذا وأسلكته أدخلته.
{ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } أي: وأدخل أهلك في الفلك يعني ولده ونساءه. { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ } أي: لا تحمل من سبق عليه القول من الله أنه هالك مع أهلك يعني ابنه الذي غرق.
ثم قال تعالى: { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ }.
أي: لا تسألني في الذين كذبوك أن أنجيهم، { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي: قضيت أن أغرق جميعهم.
ثم قال تعالى: { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ }.
أي: إذا اعتدلت أنت ومن حملته معك في السفينة، فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين { وَقُل } أيضاً يا نوح: { رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً }، إذا خرجت من السفينة وسلمك الله ومن معك. قاله مجاهد.
{ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ } أي: خير من أنزل عباده المنزل المبارك ومن قرأ "مُنزَلاً" بضم الميم، جعله مصدراً، لأن صدر الكلام قد مضى على: أنزل، فصار بمنزلة
{ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [الإسراء: 80] يقال: أنزلته إنزالاً ومنزلاً.
ومن قرأ بفتح الميم جعله اسماً لكل ما نزل فيه، فمعناه: أنزلني مكاناً مباركاً وموضعاً مباركاً. ويجوز في النحو فتح الميم والزاي بجعله مصدر نزل، كالمدخل مصدر دخل.
ثم قال تعالى: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }.
أي: إن فيما فعلنا بنوح وقومه من إنجائه وإهلاكهم حين كذبوه لَعِبراً لقومك وغيرهم، فيزدجروا عن كفرهم لئلا يحل عليهم مثل ما حل على قوم نوح من العذاب.
وقوله: / { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي: وإن كنا لمختبرين لقومك بتذكيرنا إياهم بآياتنا لننظر ما هم عاملونه قبل حلول العقوبة بهم.
وقيل معنى "لمبتلين" لمتعبدين الخلق بالاستدلال على خالقهم بهذه الآيات، فيعرفون شكره ونعمه عليهم، فيخلصون له العبادة.
ثم قال: { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }.
أي: ثم أحدثنا من بعد إهلاك قوم نوح قوماً آخرين فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن يدعوهم إلى الإيمان، فقال لهم: { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي: ما لكم معبود تجب له العبادة غير الله { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي: أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم الأصنام من دون الله.
ثم قال تعالى: { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }.
أي: قال أشراف قومه المكذبون، الكفار بالبعث، يعني قوم هود عليه السلام.
وقوله تعالى: { وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا }.
أي: ونعمناهم في الدنيا بسعة الرزق حتى بطروا وعتوا، فكفروا وكذبوا الرسل.
{ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }.
أي: إنسان مثلكم، يأكل مما تأكلون منه ويشرب مثل ما تشربون، وليس بملك فتصدقه.
(ولئن أطعتم بشراً مثلكم، فاتبعتموه) أي: قالوا ذلك لقومهم وسفلتهم.
{ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ }. أي: لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة باتباعكم إياه.
ثم قال تعالى: { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ }.
"أنّ" الثانية، بدل من الأولى عند سيبويه. المعنى عنده أنكم مخرجون إذا متم.
وقال الفراء والجرمي "أنَّ" الثانية مكررة للتأكيد. وحسن تكريرها لما طال الكلام.
وذهب الأخفش إلى "أنّ" الثانية في موضع رفع بفعل مضمر، دل عليه إذا، ومعناه عنده: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً يحدث إخراجكم. كما تقول: اليوم القتال. المعنى عنده اليوم يحدث القتال.
ومعنى الآية أن الأشراف من قوم هود قالوا لقومهم: أيعدكم هود أنكم تبعثون بعد أن تكونوا تراباً وعظاماً فتخرجون من قبوركم.
ثم قالوا: { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }.
مذهب سيبويه والكسائي أن يوقف عليها بالهاء، لأنها واحدة، وفتحت للبناء، وبنيت لأنها لم تشتق من فعل فأشبهت الحروف واختير لها الفتح للأف التي قبلها ولأن هاء التأنيث بمنزلة اسم ضم إلى اسم فصارت بمنزلة عشر في خمسة عشر، وموضعها رفع. معناها: البعد البعد لما توعدون.
وقال الفراء الوقف عليها بالتاء. فأما من كسر التاء فإنه يقف بالتاء عند الجماعة نُوِّنَ أو لم يُنَوَّنْ، لأنه جمع كبيضات واحدها هيهة كبيضة، والتنوين في جمع المؤنث لازم.
وقيل: "هو" في هذا فرق بين المعرفة والنكرة وهي عند سيبويه كناية عن البعد، كما يكنى بقولهم "صه" عن السكوت.
فالتقدير: البعد البعد لما توعدون من البعث بعد الموت يقوله أشراف قوم هود لقومهم.
قال ابن عباس: "هيهات هيهات": بعيد بعيد.
ودخول اللام مع هيهات وخروجها جائزان تقول هيهات ما تريد وهيهات لما تريد. فإذا أسقطت اللام رفعت الاسم، كما قال [الشاعر].

فَهَيْهَات هَيْهَات العَقِيقُ وَمَنْ به وَهَيْهَاتَ خِلّ بالعُقِيقِ نُوَاصِلُهُ

كأنه قال: بعيد العقيق ومن به وأهله.
وقد قيل إنها في موضع نصب على المصدر، كأنه قال: بعداً بعداً لما توعدون.
ثم قال: { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }.
أي: قال الإشراف من قوم هود: ما حياتنا إلا حياتنا في الدنيا نموت فلا نرجع، ويحيى آخرون فيولدون أحياء وما نحن بمبعوثين بعد الموت، وهذا مثل قولهم:
{ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [سبأ: 7] فتحقيق المعنى أنهم قالوا: نموت نحن ويحيا أولادنا، ولا بعث بعد الموت.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: نحيا ونموت فلا نحيا.
وقيل: المعنى: نكون أمواتاً نطفاً، ثم نحيا في الدنيا.