التفاسير

< >
عرض

قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ
٣٢
قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
٣٣
قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ
٣٤
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ
٣٥
-النمل

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي }، إلى قوله { بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ }،
أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أشيروا / علي في أمري الذي قد حضرني في أمر هذا الكتاب الذي ألقي إلي. { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ }، أي قالت: ما كنت قاضية أمراً في جواب هذا الكتاب حتى تشهدون أي تحضروني. قال لها أشراف قومها لما شاورتهم في أمرها: { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ }، أي أصحاب قوة في القتال { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي ذوو بأس في الحرب شديد، والأمر أيّتها الملكة إليك في القتال وغيره { فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ }.
روي: أن قومها كانوا أولي قوة، وأن أحدهم كان يركض الفرس حتى إذا امتلأ في جريه ضم فخذيه عليه فحبسه بقوته.
روى الأعمش عن مجاهد أنه قال: كان مع ملكة سبأ اثنى عشر ألف قيول مع كل قيول مائة ألف.
وعن ابن عباس أنه قال: كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل بلسانهم الملك.
ثم قال تعالى: { قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا }، أي قالت بلقيس لأشراف قومها: إن الملوك إذا دخلوا قرية عنوة وغلبة أفسدوها. { وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً }، تم كلامها.
ثم قال الله عز وجل تصديقاً لقولها في الملوك إذا غلبوا على قرية: { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ }، وقد أجاز بعضهم أن يكون ذلك من قولها على التأكيد لصدر ما قالت.
وقيل: هو من قول سليمان. ومثله في اتصال كلامين مختلفين قوله:
{ { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [يوسف: 51] في يوسف، فهو من قول امرأة العزيز فاتصل له كلام يوسف. فقال: { { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [يوسف: 52]، ومثله في قصة فرعون. { { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } [الشعراء: 35]، وانتهى كلام الأشراف من قوم فرعون ثم اتصل به كلام فرعون لهم وهو قوله: { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } يخاطب أشراف قومه.
والقرية كل مدينة تجمع الناس مشتقة من قريت الماء: أي جمعته.
ثم قال تعالى عنها: أنها قالت لهم: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ }، أي إني مرسلة إلى سليمان بهدية، لنختبر بذلك سليمان ونعرف أملك أم نبي؟ فإن يكن نبياً لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن يكن ملكاً قَبِل الهدية وانصرف. قال ذلك ابن عباس.
قيل: إنها لما لم يشر عليها قومها برأي رجعت إلى رأيها فأرسلت الهدية.
قال ابن عباس: بعثت إليه بوصائف ووصف ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أنثى، فقالت: إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى، ثم رد الهدية فإنه نبي، وينبغي لنا أن نترك ملكنا، ونتبع دينه ونلحق به. وكذلك قال ابن جريج، ومجاهد، والضحاك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: أهدت إليه اثني عشر غلاماً فيهم تأنيث مخضبة أيديهم قد مشطتهم، وألبستهم لباس الجواري، وقالت لهم: إذا كلمكم فردوا عليه كلاماً فيه تأنيث، وأهدت إليه اثني عشر جارية فيهن غلظ، واستأصلت رؤوسهن وأزرتهن، وألبستهن النعال، وقالت لهن: إذا كلمكن فردوا عليه كلاماً صحيحاً وأرسلت إليه بعود يخرج بالمسك والعبير والحرير في الأطباق على أيدي الوصفاء والوصائف، وأرسلت إليه اثني عشر بختية، كل بختية تحلب كذا وكذا من اللبن. وأرسلت إليه بخرزتين إحداهما مثقوبة ملتوية الثقب، والأخرى غير مثقوبة، وأرسلت إليه بقدح ليس فيه شيء، وأرسلت ذلك كله مع امرأة، وتقدمت إليها أن تحفظ جميع أمره وكلامه حتى تخبرها عنه، وقالت لهم: قوموا بين يديه قياماً، ولا تجلسوا حتى يأمركم، فإنه إن كان جباراً لم يأمركم بالجلوس وأرضيناه بالمال فيسكت عنا، وإن كان نبياً أمركم بالجلوس، وأمرتها أن تقول له أن يثقب الخرزة الصحيحة بغير حديدة، ولا علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له: أن يميز الغلمان من الجواري، وأمرتها أن تقول له: يدخل في الخرزة المثقوبة المعوجة / خيطاً بغير علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له أن يملأ القدح ماءً مزبداً ليس من الأرض ولا من السماء. قال: وكتبت إليه تسأله عن ألف باب فانطلقت المرأة بهديتها، حتى أتت بها سليمان، فوضعتها بين يديه، وقاموا قياماً ولم يجلسوا، فنظر إليهم سليمان لحظاً لم يحرك يداً ولا رجلاً، ثم رفع رأسه إلى رسولها فقال: إن الله رفع السماء ووضع الأرض، فمن شاء قام ومن شاء جلس، فجلسوا، فقدمت إليه الخرزتين وقالت: إنها تقول لك: أدخل في هذه الخرزة المثقوبة خيطاً ينفذ إلى الجانب الاخر من غير علاج إنس ولا جان، وأن تثقب الأخرى ثقباناً فذاً من غير علاج إنس ولا جان، ثم قربت إليه القدح، وقالت: تقول لك أن تملأ هذا القدح من ماء مزبد رواء ليس من الأرض ولا من السماء، ثم قربت إليه الوصفاء والوصائف، وقالت: تقول لك: أن تفرق بين الغلمان والجواري ففرق بينهم بالوضوء فبدأ الجواري بالمرافق، وبدأ الغلمان بالإيدي، وملأ لهما القدح من عرق الخيل، ودخلت دودة الثمرة بالخيط في الخرزة حتى خرجته من الجانب الآخر، وتولت دودة الخشب ثقب الخرزة الأخرى حتى نفذتها، ورد الهدية عليها.
وقال ثابت البُناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ سليمان ذلك أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقي في الطرق، فلما جاءوا رأوه ملقى لا يلتفت إليه، صغر في أعينهم ما جاءوا به.
قال ابن زيد: قالت: إن هذا الرجل إن كانت همته الدنيا فسنرضيه، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبل غيره.
وقال ابن جبير: أرسلت بمأتي وصيف ووصيفة وقالت: إن كان نبياً فسيعلم الذكر من الأنثى، فأمرهم فتوضأوا، فمن توضأ منهم، فبدأ بمرفقه قبل كفه قال: هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال: هو من الذكور.
وروى أنها: وجهت إليه بمائة وصيف، ومائة وصيفة، وألبست الجواري ثياب الغلمان، وألبست الغلمان ثياب الجواري، وقالت: إن كان ملكاً لم يعرف حتى يعريهم، وإن كان نبياً علم ولم يعريهم، فلما قدموا على سليمان أمر فوضع لهم ماء يتوضأون، فكل من بدأ بالمرفق فغسله إلى اليد علم أنها جارية، وكل من بدأ باليد إلى المرفق علم أنه غلام، فأمر بنزع ثياب الغلمان فردها على الجواري، ونزع ثياب الجواري وردها على الغلمان، ثم ردَّ ما أهدت إليه.
وقوله: "إليهم" تريد به سليمان وحده لأن الملوك يخاطبون مخاطبة الجماعة، كما يخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة.
وقوله: { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ }، أي فأنظر بأي شيء يرجع رسلي بقبول الهدية أم بردها؟