التفاسير

< >
عرض

وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ
١٥
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
١٦
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ
١٧
فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ
١٨
فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٩
-القصص

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } إلى قوله: { مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ }،
أي ودخل موسى مَنْفَا من مصر على حين غفلة من أهلها، وهو نصف النهار.
وقيل: بين المغرب والعشاء.
قال السدي: كان موسى حين كبر، يركب مراكب فرعون، ويلبس ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون، ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب موسى في إثره، فأدركه المقيل بمنف فدخلها نصف النهار، وليس بطرقها أحد.
وقال ابن إسحاق: كانت لموسى لما كبر وفيهم شيعة من بني إسرائيل، يسمعون منه، ويقتدون به، ويطيعونه، ويجتمعون إليه، فلما اشتد رأيه، وعرف ما هو عليه من الحق، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقاً في دينه، فتكلم، وعادى، وأنكر حتى ذكر ذلك منه، وحتى خافوه، وخافهم، وحتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا مستخفياً، فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها.
وقال ابن زيد: معناه: على حين غفلة من ذكر موسى، ليس غفلة ساعة، وذلك أن فرعون خاف موسى، فأخرجه عنه، فلم يدخل عليهم حتى كبر، فدخل وقد نسي ذكره، وغفل عن أمره.
قال ابن عباس: دخل نصف النهار وقت القائلة، وعنه: دخل بين المغرب والعشاء.
ثم قال: { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ }، أي أحدهما إسرائيلي من أهل دينه، والآخر قبطي من قوم فرعون وعلى دينه، وذكر أنهما اقتتلا في الدين الإسرائيلي على دين موسى والقبطي على دين فرعون، فعند ذلك حميت نفس موسى في الدين، فوكز القبطي، فأتى عليه ومات من وكزته.
وعدو هنا بمعنى أعداء، وكذلك يقال في المؤنث. ومن العرب من يدخل الهاء يجعله بمعنى: معادية.
ثم قال: { فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }.
قال ابن جبير: مر موسى برجل من القبط قد سخر رجلاً من المسلمين فلما رأى المسلم موسى استغاث به، فقال: يا موسى، يا موسى، فقال موسى: خل سبيله، فقال القبطي: قد هممت أن أحمله عليك، فوكزه موسى فمات، قال: حتى إذا كان الغد نصب النهار، خرج ينظر الخبر، فإذا ذاك الرجل قد أخذه آخر، فقال: يا موسى، فاشتد غضب موسى على القبطي فأهوى إليه، فخاف المسلم أن يكون إنما أتاه يريده، فقال له: { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ }.
فقال القبطي: يا موسى أراك أنت الذي قتلت بالأمس.
قال ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا بسخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع. فبينا هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان: أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى، فوكز الفرعوني فقتله، ولم يرهما أحد إلا الله جل ذكره، فقال موسى لما مات: { هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ }، وفي هذا الحديث اختصار.
قال مجاهد: وكزه بجمع كفه.
وقال قتادة: وكزه بالعصا ولم يتعمد قتله فقضى عليه أي ففزع منه. وروى أنه دفنه لما مات في الرمل. ثم قال تعالى: { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ }.
أي قال موسى: يا رب إني أسأت إلى نفسي بقتلي القبطي، فاستر علي ذنبي فستره الله عليه.
قال ابن جريج: إنما قال: ظلمت نفسي بقتلي، من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر. { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }، أي الساتر لذنب من آمن به واستغفره. { ٱلرَّحِيمُ }، للتائبين أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد أن تابوا منها.
ثم قال: { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }.
أي قال موسى: يارب بعفوك عني في قتل هذه النفس فلن أكون عويناً للمجرمين.
وتقدير الكلام عند الفراء أنه بمعنى الدعاء، كأنه قال: اللهم فلن أكون عويناً للمجرمين.
وقيل: معنى الكلام الخبر، وتقديره /، لا أعصيك لأنك أنعمت علي، وهذا معنى قول ابن عباس.
ثم قال تعالى: { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } أي أصبح موسى خائفاً من قوم فرعون، يترقب الأخبار، أن يعرفوا القصة فيقتلوخ بالقبطي. { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } أي فإذا الإسرائيلي الذي استنصر موسى بالأمس على الفرعوني، يستصرخ موسى، أي يصيح وهو من الصراخ. ثم قال له موسى: { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } يوبخ الإسرائيلي، لأن موسى نادم على ما قد سلف منه من قتله القبطي بالأمس. ومعنى: { لَغَوِيٌّ } أي لذو غواية { مُّبِينٌ } أي أبنت غوايتك بقتالك أمس رجلاً، واليوم آخر.
قال ابن عباس: أتي إلى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا، ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: ابغوا لي قاتله ومن شهد عليه، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة، ولا ثبت فاطلبوا ذلك. فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئاً، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي بقاتل فرعوني، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمد يده وهو يريد الفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ }، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال هذا، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، فخاف أن يريده موسى، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فقال: { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً } الآية. فسمع كلامه فطلب موسى.
قال السدي: قال موسى للإسرائيلي: { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ }، ثم أقبل لينصره فظن الإسرائيلي أنه إياه يريده فأشهره، هذا معنى كلام السدي.
وقال ابن أبي نجيح: أراد الإسرائيلي أن يبطش بالقبطي فنهاه موسى ففرق الإسرائيلي من موسى، فقال: { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي } الآية. فسعى بها القبطي. وكذلك قال ابن عباس: إن القبطي هو الذي أفشى الخبر على موسى، ورفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.