قوله تعالى ذكره: { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي }، إلى قوله: { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ }،
أي فلما أتى موسى النار، نودي من شاطئ الوادي أي من عدوته وجانبه الأيمن، أي مِن على يمين موسى { فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ }، أي المطهرة، لأن الله كلم موسى فيها وقوله { مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } سئل بعض العلماء عن هذا فقال: كلمة من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة.
قال قتادة: من عند الشجرة وهي عوسج.
وقال وهب بن منبه: هي العليق.
وقيل: هي سمرة.
وقيل: كانت عصا موسى من عوسج، والشجرة من عوسج.
وقوله: { أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }، أي نودي بهذا ثم قال تعالى: { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } أي ونودي بأن إلق عصاك، فألقاها موسى، فصارت حية تسعى، فلما رآها موسى تهتز، أي تتحرك كأنها جان، الجان نوع معروف من الحيات، وهي منها عظام { وَلَّىٰ مُدْبِراً }، أي هارباً منها { وَلَمْ يُعَقِّبْ }، أي لم يرجع على عقبيه.
قال قتادة: لم يلتفت من الفرق.
روي أنه لما ألقاها صارت ثعباناً، فلم تدع صخرة ولا شجرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى صريف أسنانها، فحينئذ ولى مدبراً خائفاً، فناداه ربه لا إله إلا هو: { يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ }، فذهب عنه الخوف، وكان سنه في ذلك الوقت أربعين سنة، ثم أمر بأن يدخل يده في جيبه، ففعل، فخرجت نوراً ساطعاً، وأمر بضم يده إلى صدره من الخوف، ففعل فذهب خوفه.
وروي: أنه ليس من خائف يضم يده إلى صدره إلا نقص خوفه، وقوله: { يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ }، أي قال الله: يا موسى أقبل إلي ولا تخف من الذي تهرب منه { إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ }، من أن تكون تضرك إنما هي عصاك.
قال وهب: قيل له: ارجع إلى حيث كنت، فرجع، فلف ذراعته على يده فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله جل ثناؤه أن يصيبك بما تحذر، أينفعك لفك يدك؟ فقال: ولكني ضعيف خلقت من ضعف، فكشف يده، فأدخلها في فم الحية، فعادت عصاً.
وقيل: إنه أدخل يده في فم الحية بأمر الله فعادت عصاً.
ثم قال تعالى: { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ }، أي أدخل يدك في جيب قميصك تخرج بيضاء من غير برص، قاله قتادة.
قال الحسن: فخرجت كأنها المصباح، فأيقن موسى أنه لقي ربه. { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ }، قال ابن عباس ومجاهد: يعني يده.
وقال ابن زيد: الجناح: الذراع، والعضد والكف، واليد.
قال الضحاك عن ابن عباس: معناه أدخل يدك فضعها على صدرك حتى يذهب عنك الرعب.
قال /، ابن عباس: فليس من أحد يدخله رعب بعد موسى، ثم يدخل يده فيضمها إلى صدره، إلا ذهب عنه الرعب.
وقال الفراء: الجناح هنا: العصا، وهذا قول شاذ.
وحكى أهل اللغة أن الجناح من أسفل العضد إلى آخر الإبط، وربما قيل لليد: جناح.
وقد قال أبو عبيدة: جناحك: يدك.
وقوله: { مِنَ ٱلرَّهْبِ } أي من الخوف والفزع الذي داخلك من الحية.
ثم قال: { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ } أي فهذان اللذان أريناك برهانان من ربك، أي آيتان وحجتان إلى فرعون وملإه على نبوتك يعني اليد والعصا.
وحكى بعض أهل اللغة: في "ذا" المد والقصر، ذاء وذا.
ثم قال: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }، أي خارجين عن الإيمان.
و "من" في قوله: "من الرهب" متعلقة "بيعقب" أي ولم يعقب من الرهب.
وقيل: هي متعلقة "بولى مدبراً من الرهب".
ثم قال تعالى ذكره: { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ }، أي إني أخاف إن آتيتهم فلم أبن عن نفسي أن يقتلون بالنفس التي قتلت، وكانت في لسانه عقدة لا يبين معها ما يريد من الكلام فقال: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً }، أي أحسن مني بياناً { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي }، أي عوناً يصدقني. قاله مجاهد وقتادة، وهو قول أهل اللغة.
يقال أردأته: أي أعنته ومن فتح الدال فعلى تخفيف الهمزة.
وقيل: إنما سأل موسى في إرسال أخيه معه، لأن الاثنين إذا اجتمعا على الخبر كانت النفس إلى تصديقهما أسكن منها إلى تصديق خبر الواحد. قاله ابن زيد.
وعن ابن عباس { رِدْءاً يُصَدِّقُنِي }: كي يصدقني.
وقال مسلم بن جندب: الردء: الزيادة.
وقال السدي: كيما يصدقني إني أخاف أن يكذبون فيما أرسلتني به إليهم، ومن جزم "يصدقني" جعله جواباً للطلب، ومن رفع فعلى الاستئناف. وتقف على "ردءاً" ويجوز الرفع على أن تجعله نعتاً لردءاً، أي ردءاً مصدقاً، ويجوز أن تجعله حالاً من الهاء في "فأرسله" ولا تقف على هذين الوجهين على رداً.
ثم قال تعالى ذكره: { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ }، أي قال الله جل ذكره لموسى: سنشد عضدك بأخيك أي نقويك، ونعينك بأخيك. وذكر العضد لأن قوة اليد بالعضد { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً }، أي حجة فلا يصلون إليكما، أي لا يصل فرعون وقومه إليكما بضر.
وقوله: "بآياتنا" متعلقة "بسلطان" والمعنى: ونجعل لكما حجة بآياتنا يعني العصا واليد. فلا تقف على هذا التقدير على "إليكما".
وقيل: التقدير فلا يصلون إليكما بآياتنا تمتنعان بآياتنا فلا تقف أيضاً على "بآياتنا" إلا أن تقدر الفعل في ابتدائك فتقف على "إليكما".
وقال الأخفش والطبري: التقدير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، ثم قدمت الآيات، وهذا لا يجوز لأنه تقديم صلة على موصول، وقد أجازه الأخفش، على أن يكون بياناً مثل: { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } فعلى هذا تقف على { إِلَيْكُمَا }.
ويروى: أن الله جعل في الحية التي انقلبت من العصا عِظمَاً وقوة، ما لو تركت على فرعون وقومه لأهلكتهم، فكانوا من خوف هذه الحية، ولما شاهدوا من عِظمها لا يتجرءون على قتل موسى وهارون ولا يطمعون في الوصول إليهما بسوء، فذلك قوله عز وجل: { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ }، أي لا يتجرءون على قتلكما مع ما ظهر إليهم من عظم الآيات والخوف منها على أنفسهم، يشغلهم الخوف من عظيم ما عاينوا عن أن يقدروا على أذى موسى وهارون.
ثم قال تعالى: { فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى }، أي قال فرعون وقومه: ما هذا الذي جئتنا به يا موسى إلا سحر افتريته، أي تخرصته من عند نفسك، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في أسلافنا الأولين. قال لهم موسى: { رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ }، أي ربي أعلم بالمحق من المبطل وبمن جاء بالرشاد { وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ }، أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة منا { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ }، وهذه مخاطبة جميلة من موسى عليه السلام لفرعون، فترك موسى أن يقول له: بل الذي غر قومه، وأهلك جنده، وأضل أتباعه، أنت لا أنا، ورجع إلى ملاطفته فقال: { رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ / عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ }، فبالغ موسى بهذا في ذم فرعون وقومه بخطاب جميل.
ثم قال تعالى: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي }، أي قال ذلك فرعون لأشراف قومه لئلا يصدقوا موسى فيما جاءهم به من عبادة الله.
{ فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ }، يريد عمل الآجر، وهو أول من عمله وبنى به { فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً }، ابن لي بنياناً مرتفعاً { لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } أي انظر إلى معبود موسى الذي يدعونا إلى عبادته { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ }، أي أظن موسى فيما يقول: إن له معبوداً، كاذباً. والظن هنا شك، فكفر الملعون بالشك.
قال السدي: فبنى له هامان الصرح، وارتقى فوقه فأمر بنشابة، فرماها نحو السماء فردت عليه وهي ملطخة دماً، فقال: قد قتلت إله موسى. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.