التفاسير

< >
عرض

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ٱلْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ
٤٣
مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ
٤٤
لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ
٤٥
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٤٦
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ
٤٧
ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
٤٨
وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
٤٩
فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٥٠
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ
٥١
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ
٥٢
وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ
٥٣
-الروم

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ٱلْقِيِّمِ } إلى قوله: { فَهُمْ مُّسْلِمُونَ }.
أي: اتبع يا محمد الدين الذي أمرك الله به فهو المستقيم.
فالمعنى: أسلم على الدين القيم واعمل به أنت ومن اتبعك من قبل أن ينقطع وقت العمل بالموت وقيام الساعة. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
{ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ } أي: لا بد من إتيانه وهو يوم القيامة.
{ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي: يتفرقون في ذلك اليوم، فريق في الجنة وفريق في السعير.
يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع لأنه تفرق شعب الرأس.
ثم قال تعالى ذكره: { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي: إثم وزره.
{ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً } أي: من آمن وأدى ما افترض الله عليه.
{ فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي: فلأنفسهم يستعدون ويوطئون.
قال مجاهد: يمهدون في القبر.
ثم قال: { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ } أي: يومئذ يتفرقون ليجزي المؤمنين من فضله، أي: يتفرقون لهذا الأمر، فيخص بالجزاء المؤمنين خاصة لأنه لا يحب الكافرين.
ثم قال تعالى ذكره: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } بالغيث.
{ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ } أي: ولينزل عليكم من رحمته، وهي الغيث الذي يحيي به البلاد.
{ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ } أي: السفن في البحر بأمره إياها.
{ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي: تلتمسوا من رزقه الذي قسمه لكم في سفركم في البحر.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: تشكرون على هذه النعم.
ثم قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كذبه قريش، فأعلمه الله أنه قد أَرْسَل من قبله رسلاً إلى قومهم كما أرسله إلى قومه، وأن أولئك الرسل أَتَوْا أقوامهم بالبينات، أي: بالحجج الظاهرة كما جئت أنت يا محمد قومك بذلك.
{ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ } في الكلام حذف والتقدير فكذبوا الرسل فانتقمنا من المكذبين، فكذلك نفعل بقومك يا محمد في تكذيبهم إياك.
{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } أي: ونجينا المؤمنين إذ جاء بأسنا، وكذلك نفعل بك يا محمد ومن آمن بك.
وقيل: المعنى: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين على الكافرين، فكذلك ننصرك ومن آمن بك على الكافرين من قومك.
وفي الحديث:
"مَنْ رَدَّ عَلَى عِرْضِ صَاحِبِهِ رَدَّ الله عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ ثُمَّ تَلَى رَسُولُ الله: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤمِنِينَ" . والتمام عند نافع آخر واو.
وقف بعض الكوفيين، "وَكَانَ حَقًّا" أي: فكان انتقامنا / حقاً، ثم يبتدئ "عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤمِنِينَ". نصر ابتداء، وخبره علينا.
والوقف عند أبي حاتم: "نَصْرُ المُؤمِنِينَ".
ثم قال تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } أي: ينشئ الرياح سحاباً، { فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ } ويجمعه.
قال قتادة: يبسطه: يجمعه.
ثم قال تعالى: { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } أي: ويجعل الله السحاب في السماء قطعاً متفرقة، وهو جمع كسفة، وهي القطعة منه.
ومن أسكن السين فمعناه: أنه يجعل السحاب قطعة واحدة ملتئمة.
ويجوز أن يكون معناه كالأول على التخفيف.
ثم قال تعالى: { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي: المطر يخرج من بين السحاب.
قال عبيد بن عمير: الرياح أربع: يبعث الله جل ذكره ريحاً فتعم الأرض قماً، ثم يبعث الريح الثانية فتثير سحاباً فتجعله كسفاً، أي: قطعاً متفرقة، ثم يبعث الريح الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاماً، ثم يبعث الرابعة فتمطر.
ومعنى { مِنْ خِلاَلِهِ }: من خلال الكسفة، لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء فالتذكير فيه حسن.
وخلال جمع خلل.
وقد قرأ الضحاك: "يَخْرُجُ مِنْ خَلَلِهِ".
ثم قال تعالى: { فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ } أي: بالمطر { مَن يَشَآءُ } أي: أرض من يشاء من عباده استبشروا وفرحوا.
ثم قال تعالى: { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي: وإن هؤلاء الذين أصاب بالغيث أرضهم كانوا يئيسين من الخير قبل أن ينزل عليهم الغيث.
وقوله: { مِّن قَبْلِهِ } تأكيد للأول عند الأخفش.
وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر.
وقيل: التقدير من قبل تنزيل الغيث [من قبل رؤية السحاب.
وقيل: المعنى وإن كانوا من قبل تنزيل الغيث] عليهم من قبل أن يزرعوا لمبلسين، ودل المطر على الرزع لأنه خرج بسبب المطر، ودل على ذلك أيضاً { فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } يعني الزرع.
ثم قال تعالى: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ } أي: انظر يا محمد إلى أثر المطر في الأرض كيف حييت بعد موتها، وأنبتت بعد قحطها، واهتزت بعد جدبها، فكذلك يحيي الله الموتى بعد فنائهم.
ومن قرأ "أَثَرِ رَحْمَةِ اللهِ" بالتوحيد رده على التوحيد في: "فَيُبْسِطُهُ"، و "يَجْعَلُهُ"، و "مِنْ خِلاَلِهِ"، "وَأَصَابَ بِهِ"، "وَمِنْ قَبْلِهِ".
ومن قرأ بالجمع رده على الأسباب المتقدمة وهي: إرسال الله الريح، وإثارتها السحاب، وبسطه آياه في السماء، وجعله إياه كسفاً، وإخراجه الودق، فهذا كله آثار جليلة وليست بأثر واحد فجمع على ذلك.
ثم قال: { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ } أي: إن الذي يحيي هذه الأرض بعد موتها لمحيي الموتى بعد موتهم.
{ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: لا يمتنع عليه فعل شيء أراده.
والمضمر في "يحيي الأرض" يجوز أن يكون للمطر، ولله جل ذكره، وللأثر.
وقرأ محمد اليماني "كَيْفَ تُحْيِي" بالتاء رده على الرحمة، أو على الآثار.
ثم قال تعالى ذكره: { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً } أي: ولئن أرسلنا ريحاً مفسدة لما أنبت الغيث فرأوا ما أنبت الغيث مصفراً قد فسد بتلك الريح.
{ لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } أي: لصاروا من بعده فرحهم واستبشارهم بالغيث يكفرون، أي: يجحدون نعم الله، فالهاء في "رَأَوْهُ" للنبات من زرع وغيره.
وقيل: الهاء للسحاب.
وقيل: للريح.
ثم قال تعالى: { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } الآية.
أي: إنك يا محمد لا تقدر أن تسمع من مات قلبه، ولا من أصم الله أذنه عن سماع الإيمان وهو الكافر لأنه كالميت الأصم. وهذا مَثَلٌ [ضربه] الله للكفار.
ثم قال تعالى: { وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ } الآية.
أي: لست يا محمد تقدر أن تهدي من أعماه الله تعالى عن الهدى.
{ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ } أي: تسمع إلا من وفقه الله للإيمان، وقد تقدم تفسير الآيتين بأشبع من هذا في "الأنبياء".