التفاسير

< >
عرض

وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٥
يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
١٦
يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٧
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
١٨
وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٢٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٢١
وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ
٢٢
-لقمان

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي } إلى قوله: { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ }.
أي: وإن جاهداك أيها الإنسان والداك على أن تشرك بي في العبادة ما لا تعلم أنه لي شريك، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك.
{ وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } أي: بالطاعة لهما فيما لا إثم عليك فيه.
{ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } أي: واسلك طريق من تاب ورجع عن شركه إلى الإسلام.
قال قتادة: "مَنَ أَنَابَ إِلَيّ" أقبل إلي.
قال الليث: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص، كان بَرّاً بأمه، فلما أسلم كلمها بعض قومها أن تكلمه أن يرجع إلى دينه، فقالت: أنا أكفيكموه، فكلمته في ذلك، فقال: أما في هذا فلا أطيعك ولكن أطيعك فيما سوى ذلك.
قال الليث: فصارت له ولغيره وأن لا يطاع أحد في شرك ولا في معصية لله.
وروي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه فهو الذي أناب إلى الله، وأمر الله أن يتبع سبيله، وذلك أن أبا بكر حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأتاه قبل ذلك عثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فسألوه هل أسلم؟ فقال: نعم، فنزلت
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ } [الزمر: 10] الآية إلى قوله: { أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 10]. فلما سمعوا ما نزل الله في أبي بكر أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا وصدقوا فنزلت فيهم: { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } [الزمر: 17] إلى قوله: { أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 18].
قوله: { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي: مصيركم بعد مماتكم.
{ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: فأخبركم بجميع ما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر، ثم أجازيكم عليه.
وهذه القصة كلها معترضة فيما بين كلام لقمان لابنه، وإنما جاز الاعتراض هنا لأنها أيضاً مما كان وصى به لقمان ولده، فجعلها الله جل ذكره خبراً من عنده لنا لنتبعها ونعمل بها، مما دل على ذلك قوله تعالى عن لقمان أنه قال لولده: { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ } أي: إن القصة التي سألتني عنها / أو المسألة.
روي أنه كان يسأل والده عن ذلك، فجرى الإضمار عن سؤال ولده له.
وقيل: التقدير: إن الخطيئة أو المعصية إن تكن مثقال حبة. هذا على قراءة من نصب "مثقال حبة" فأما من رفع. فلا إضمار في "كان" عنده، ورفع إلقاء ثبت في "تك" حملاً على المعنى لأن المقصود الحبة، فكأنه قال: إنها إن تك حبة. يقال: عندي حبة فضة ومثقال حبة فضة بمعنى واحد، وقد قالوا: اجتمعت أهل اليمامة.
فالمعنى على الرفع: إن الخطيئة إن تك حبة، أي إن وقعت حبة من خرذل. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً -، والتقدير: إن تك حبة خرذل في موضع يأت بها الله.
والتقدير في هذا كله: زنة حبة من خير أو شر.
ثم قال: { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ }.
روي أن ابن لقمان سأل لقمان فقال: أرأيت الحبة تكون في مثل البحر أمن يعلمها الله فأعلمه أنه يعلمها في أخفى المواضع لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في السماء.
وهذا مثل لأعمال العباد، أن الله يأتي بأعمالهم يوم القيامة.
روي أن لقمان لما وعظ ابنه هذه الموعظة أتى بحبة خرذل فألقاها في اليرموك - في عرضه -، ثم مكث ما شاء الله ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته. من رواية ابن وهب وروي عن ابن عباس [أنه] وزن رطل لحم وجعله للذَّرِّ حتى اسود من كثرة الذر عليه، ثم أخذه بما عليه من الذر ووزنه فلم يزد شيئاً، فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره أراد أن يرغبكم وأن يحضكم على ثواب الآخرة، وأما الذر والخرذل. فلا مثاقيل لها، ولكن في عظمة الله وقدرته وعلمه ما يعلم به مثاقيل الذر والخرذل.
ويروي أن عائشة رضي الله عنها: "تصَّدقَتْ بحبة عنب فقالت لها مولاتها بُرَيْرَةُ يا أمَّ المؤمنين: أي شيء حبة عنب؟ فقالت لها عائشة: كم ترين فيها من مثقال ذرة".
ويقال: إن الصخرة هنا هي الصخرة الخضراء التي على ظهر الحوت وهو النون الذي ذكره الله عز وجل في قوله: نون والقلم والحوت في السماء والسماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض.
وقال قتادة: "فتكن في صخرة" أي: في جبل من الجبال.
وقيل: معنى { يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } بعلمها الله.
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ } أي: باستخراجها.
{ خَبِيرٌ } أي: بمكانها ومستقرها لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أي: بحدودها في أوقاتها.
{ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ } أي: آمر الناس بطاعة الله.
{ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } أي: إنه الناس عن معصية الله.
{ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } أي: من أذى الناس ومحن الدنيا في ذات الله إذا أنت أمرتهم بالطاعة ونهيتهم عن المعصية.
{ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي: إن الصبر على ذلك مما أمر الله له من الأمور عزماً.
ثم قال تعالى: { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي: لا تعرض بوجهك، على من كلمك تكبراً واستخفافاً.
وأصله من الصعر وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها. ورؤوسها، تلتوي منه أعناقها فقيل هذا للمتكبر لأنه تكبر لوى عنقه على من تكبر عليه.
قال ابن عباس: معناه لا تتكبر فتحقر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك، إذا كلموك وهو معنى قول مجاهد والضحاك.
وعن مجاهد أنه قال: هو الرجل يكون بينه وبين أخيه إحْنَةٌ فيراه فيعرض عنه فنهاه عن ذلك.
وقال النخعي: هو التشدق.
ثم قال: { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً }.
قال الضحاك: لا تمش بالخيلاء.
وقال قتادة: نهاه عن التكبر.
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: كل متكبر مفتخر بما أعطي وهو لا يشكر الله.
ثم قال تعالى ذكره: { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي: تواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر ولا تستعجل ولكن اتئد.
قال مجاهد: واقصد في مشيك التواضع.
وقال قتادة: نهاه عن الخيلاء.
وقال يزيد بن أبي حبيب: نهاه عن السرعة.
ثم قال: { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أي: اخفض منه واجعله قصداً إذا / تكلمت.
وقيل: معناه إذا ناجيت ربك لا تصح، وبالخفاء دعا زكرياء ربه.
قال قتادة: أمره بالاقتصاد في صوته.
ثم قال: { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ }.
قال مجاهد والضحاك والأعمش وقتادة: معناه إن أقبح الأصوات.
قال قتادة: أوله زفير وآخره شهيق.
قال عكرمة: معناه إن شر الأصوات.
وقال الحسن: معناه إن أشد الأصوات.
قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله للحمير.
ووحد الصوت لأنه مصدر.
وفي الحديث:
"ما صاح حِمَارٌ ولا نَبَحَ كَلْبٌ إلا أن يرى شَيْطَاناً" .
ثم قال: { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } يعني: شمسها وقمرها ونجومها وجبالها وعيونها وبحرها وجميع منافعها التي هي صلاح للعباد في أنفسهم وفي معاشهم وتصرفهم.
ثم قال تعالى: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }.
[من جمع النعم جعل ظاهرة وباطنة حالاً]. ومن وحد جعلها نعتاً.
وقال ابن عباس في توحيد النعمة: هي الإسلام.
وقال مجاهد: هي لا إله إلا الله.
وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس.
فيكون المعنى: ظاهرة على الألسن وعلى الأبدان والجوارح عملاً، وباطنة في القلوب اعتقاداً ومعرفة.
وروى الضحاك، عن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
"الظاهرة الإسلام وما أحسن من خَلْقِكَ، والباطِنَةُ ما سَتَرَ عليك من سيئ عَمَلِكَ" .
ثم قال تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ }.
أي: يخاصم في توحيد الله وإخلاصه العبادة له بغير علم عنده لما يخاصم به { وَلاَ هُدًى } أي: ولا إيمان يبين به صحة ما يقول { وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي: ولا تنزيل من الله عنده بما يدعي يبين به صحة دعواه.
قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث.
ثم قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي: وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في الله بغير علم: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من القرآن.
{ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } من عبادة الأوثان.
قال الله جل ذكره: { أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }. هذا على التوبيخ لهم: أي: أَوَلَوْ كان الأمر هكذا أكان يجب لهم أن يتبعوه.
ثم قال تعالى: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: من يتذلل إلى الله بالعبادة وهو مطيع لما أمره الله به فقد استمسك بالأمر الأوثق الذي لا يخاف معه، أي: يمسك من رضى الله تعالى بما لا يخاف معه غداً عذاباً.
قال ابن عباس: العروة الوثقى: لا إله إلا الله.
{ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ } أي: إليه ترجع أمور الخلق فيجازيهم بأعمالهم.