التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
٢٢
مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
-الأحزاب

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } إلى قوله: { غَفُوراً رَّحِيماً }.
أي: ولما عاين المؤمنون جماعة من الكفار، وقالوا تسليماً منهم لأمر الله وتصديقاً بكتابه: { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } يعنون قوله تعالى ذكره:
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [البقرة: 214].
ثم قال: { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } أي: ما زادتهم الرؤية لذلك إلا إيماناً بالله وتسليماً لأمره، وإنما ذُكِّرَ "زادهم" لأن تأنيث الرؤية غير حقيقي. ودل "رأي" على الرؤية، هذا قول الفراء وعلي بن سليمان.
وقال غيرهم: التقدير: وما زادهم اجتماع المشركين عليهم إلا إيماناً، هذا كله مأخوذ من قول ابن عباس وقتادة وغيرهما.
قال الحسن: معناه ما زادهم البلاء إلا إيماناً بالرب وتسليماً إلى القضاء.
ثم قال تعالى: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: أوفوا بالصبر على البأساء والضراء إذ قد عاهدوا الله أن يصبروا إذا امتحنوا.
ثم قال: { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: فرغ من العمل الذي قدره الله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بَدْر وبعض يوم أُحُد وبعض في غير ذلك من المواطن.
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } قضاءه والفراغ منه على الوفاء لله بعهده.
وأصل النحب في كلام العرب النذر، ثم يستعمل في الموت والخطر العظيم، وقيل: النحب: العهد.
قال الحسن: { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } موته على الصدق.
وقال قتادة: على الصدق والوفاء.
قال ابن عباس: نحبه هو الموت على ما عاهد الله، ومنهم من ينتظر الموت على ما عاهد الله عليه.
ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله إن لقوا قتالاً للمشركين مع رسول الله أن يبلوا من أنفسهم، فشهدوا ذلك مع رسول الله، فمنهم من وفى فقضى نحبه، ومنهم من بدّل وهم الذين قال الله عز وجل فيهم:
{ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } [الأحزاب: 15] الآية، ومنهم من وفى ولم يقض نحبه فهو منتظر للموت.
قال أنس: تغيَّب أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: تغيَّبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن رأيت قتالاً ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وهزم الناس لقي سعد بن معاذ فقال: والله إني لأجد ريح الجنة فتقدم فقَاتَل حتى قُتِلَ، فنزلت هذه الآية: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }، وقال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضعاً وثمانين جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه حتى عرفته أخته.
وقيل: معنى { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } الإسلام.
وقوله: { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي: ما غيّروا العهد ولا الدين كما غيره المعوقون القائلون لإخوانهم هلم إلينا.
قال قتادة: معناه ما شكوا ولا ترددوا في دينهم ولا استبدلوا به غيره.
ثم قال تعالى: { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: صدقوا ليثبت أهل الصدق منهم بصدقهم الله على ما عاهدوا عليه.
{ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ } بكفرهم ونقضهم ما عاهدوا الله عليه، أو يتوب عليهم، أي يخرجهم من النفاق إلى الإيمان به.
ومعنى الاستثناء في هذا أن المعنى: ويعذب المنافقين بأن لا يتوب عليهم، ولا يوفقهم للتوبة، فيموتوا على نفاقهم إن شاء، فيجب عليهم العذاب، فعذاب المنافق لا بد منه لأنه كافر، والاستثناء إنما هو من أجل التوفيق لا من أجل العذاب، ويبين ذلك قوله: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فالمعنى ويعذب المنافقين إن لم يهدهم للتوبة، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم.
ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: أن الله لم يزل ذا ستر على ذنوب التائبين، رحيماً بهم أن يعذبهم بعد توبتهم.