التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً
٥٧
وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٥٨
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥٩
لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٠
مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً
٦١
سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٦٢
يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً
٦٣
إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً
٦٤
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٦٥
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ
٦٦
وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ
٦٧
رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
٦٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً
٦٩
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٧٠
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
٧١
إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
٧٢
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٧٣
-الأحزاب

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى آخر السورة.
أي: إن الذين يؤذون أولياء الله، قاله الشعبي.
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"قال الله عز وجل: شَتَمَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي، وَكَذَّبَني عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنِّي اتَّخَذْتُ وَلَداً، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ. وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنْ لَنْ يُبْعَثَ - يَعْنِي بَعدَ المَوْتِ -" وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير.
وقيل: إنهم يعصون الله ويركبون ما حرم عليهم فذلك أذاهم.
ثم قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ }.
قال مجاهد: يَقْفُونَ فيهم بغير ما عملوا.
وقيل: إنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين نكح صفية بنت حُيي.
ثم قال: { لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي: أبعدهم من رحمته.
ثم قال: { فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أي: وزر كذب وفرية شنيعة، { وَإِثْماً مُّبِيناً } أي: بَيِّنٌ لسامعه أنه إثم وزور. والبهتان أفحش الكذب.
ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الآية. أي: قل لهن يرخين عليهن أرديتهن لئلا يشتبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن فيكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن يدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض لهن فاسق.
قال ابن عباس في معناها: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة.
وعنه أيضاً أنه قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب أن تقنع به وتشده على جبينها.
وقال أبو مالك والحسن: كان النساء يخرجن بالليل في حاجاتهن فيؤذيهن المنافقون ويتوهمون أنهن إماء فأنزل الله الآية. وكان عمر رضي الله إذا رأى أمة قد تقنعت علاَهَا بالدِّرَة.
وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن قوله: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } فقال: تغطي حاجبها بالرداء أو ترده على أنفها حتى يغطي رأسها ووجهها وإحدى عينيها.
وقال مجاهد: يتجلببن حتى يعرفن فلا يؤذين بالقول.
وقال الحسن: { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } أي: يعرفن حرائر فلا يؤذين.
قال ابن عباس وابن مسعود: الجلباب الرداء.
وقال المبرد: الجلباب كل ملحفة تستر من ثوب أو ملحفة.
ثم قال: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً } لما سلف منهن من ترك إدنائهن جلابيبهن عليهن، { رَّحِيماً } بهن أن يعاقبهن بعد موتهن.
ثم قال تعالى: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي: لئن لم ينته الذين يسرون الكفر.
{ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي: شهوة من الزنى من المنافقين.
{ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ } أي: أهل الإرجاف في المدينة بالكذب والباطل يشيعون ما يخوفون به المؤمنين، وهم من المنافقين، أيضاً هم أجناس قد جمعوا هذه الأسماء كلها.
قال قتادة: أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فتوعدهم الله بهذه الآية فكتموا نفاقهم وستروه.
ثم قال تعالى: { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي لنسلطنك عليهم، وقد أغراه بهم بقوله جل ذكره:
{ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } [التوبة: 84] وأمره بلعنهم.
وقال المبرد: قد أغراه بهم في قوله: { أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } قال: وهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم، أي: هذا حكمهم إذ قاموا على النفاق والإرجاف في المدينة. وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"خَمسٌ يُقتَلْنَ فِي الحَرَمِ" ففيه معنى الأمر ولفظه خبر.
وقيل: إنهم انتهوا عن الإرجاف /.
وقيل: إنه لقوم بأعيانهم.
قال ابن عباس: "لنغرينك" لنسلطنك.
وقال قتادة: لنحرشنك.
وقد استشهد من قال بجواز ترك إنفاذ الوعيد بهذه الآية، وقال: قد تواعدهم الله بأن يغري نبيه عليهم ولم يفعل.
وقال من يخالفه: قد أغراه بهم، وأنفذ وعيده فيهم. وبقاء المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة إلى أن توفي يدل على أن الله لم ينفذ الوعيد فيهم لأن من تمام وعيده فيهم: قوله: { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } وهو مذهب أهل السنة. إذ المعروف من عادات الكرماء وأهل الفضل والشرف إتمام وعدهم وتأخير إنفاذ وعيدهم بالعفو والمعروف بالإحسان، ولا أحد أكرم من الله ولا أبين فضلاً وشرفاً منه فهو أولى بالعفو والإحسان وترك إنفاذ وعيده في المؤمنين.
ثم قال: { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } أي: إن لم ينتهوا عن الإرجاف سلطتك عليهم ولا يقيموا معك في المدينة إلا وقتاً قليلاً. وهذا وقف إن جعلت { مَّلْعُونِينَ } نصباً على الذم. فإن جعلته حالاً وقفت على { مَّلْعُونِينَ }. وهو قول الأخفش وغيره وهو حال من المضمر في { يُجَاوِرُونَكَ }.
وأجاز بعض النحويين أن يكون حالاً من المضمر في { أُخِذُواْ }، وذلك لا يجوز لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله. ولا يحسن الوقف على "تقتيلاً"، لأن "سُنَّةَ" انتصبت على فعل دل عليه ما قبله، فما قبله يقوم له مقام العامل.
ومعنى { مَّلْعُونِينَ } أي: مطرودين ومبعدين.
{ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ } أي: وجدوا، { أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ } لكفرهم بالله.
ثم قال تعالى: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي: سن الله ذلك سنة في الذين ينافقون على الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقَتَّلوا حيث ما وجدوا.
ثم قال: { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } أي: ولا تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييراً.
ثم قال تعالى: { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ } أي: عن قيامها ومتى تكون.
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ } أي: علم وقت قيامها عند الله لا يعلمها إلا هو.
ثم قال: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } أي: وما يشعرك يا محمد، لعل قيام الساعة يكون منك قريباً قد دنا وحان. وذكر قريباً على معنى الوقت والقيام.
ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } أي: أبعدهم من كل خير وأعدَّ لهم في الآخرة ناراً ماكثين فيها أبداً، لا يجدون ولياً يمنعهم منها، ولا نصيراً ينصرهم فيخرجهم من عذابها.
ثم قال: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ } أي: لا يجدون ولياً ولا نصيراً في هذا اليوم الذي تقلب فيه وجوههم في النار. قائلين: { يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ } أي: في الدنيا، ندامة وحسرة على ما فات.
ثم قال: { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } أي: وقال هؤلاء الذين تقدمت صفتهم في النار: يا ربنا إنا أطعنا في الكفر سادتنا، أي أئمتنا وكبراءنا.
{ فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } أي: أزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى.
{ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } أي: عذّبهم مثلي عذابنا.
{ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } أي: أخزهم خزياً كبيراً.
ففي هذه الآية زجر عن التقليد لأنهم لو نظروا لظهر لهم أنهم على ضلال، ولكنهم قلدوا ضلالاً فضلوا.
ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ } أي: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول يكرهه، فتكونوا أمثال بني إسرائيل الذين رموا موسى بعيب كذب، فبراءة الله مما رموه به.
{ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } أي: ذا منزلة ودرجة رفيعة كلمه تكليماً.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كانَ مُوسَى رَجُلاً حَيِيّاً فَكَانَ لا يُرَى مُتَجَرِّداً، فقالَ بَنُو إِسرائيلَ: إنَّه آدرُ، فذَهَبَ مُوسَى يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ فَمَرَّ الحَجَرُ يَسْعَى بِثِيَابِهِ فَتَبِعَهُ مُوسَى فقالَ: ثِيابي حَجرٌ! ومرَّ بمجلسِ بني إسرائيل فَرَأَوْهُ فبرَّأه الله مما قالوا" . وكذلك ذكر ابن عباس وابن زيد وغيرهما.
وعن أبي هريرة أنه رموه بالبرص فبرأه الله من ذلك.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال:
"إنَّ موسى كانَ رجلاً حَيِياً سِتِّيراً لا يكاد يُرى من جِلدِهِ شَيءٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل /، وقالوا: ما استَتَرَ هذا إلاَّ من عَيبٍ بِجلدِه، إِمَّا أَدْرَة وإِمَّا بَرَصٌ، وإمَّا آفة، فبرَّأه الله مما قالوا بِالحَجَرِ" .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته وكان أشد حُبّاً لنا منك وأَلْيَنَ لنا منك، فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته، حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرأه الله من ذلك فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع أحد من خلق الله على قبره إلا الرَّخم فجعله الله أصَمَّ أَبْكَمَ" .
ثم قال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي: لا تعصوه.
{ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } أي: قولوا في رسول الله قولاً عدلاً حقاً. قاله مجاهد.
وقال عكرمة: "قولاً سديداً" لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق.
ثم قال: { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي: يوفقكم لصالح الأعمال.
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي: لا يعذبكم عليها بعد توبتكم منها.
{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: فيما أمر به ونهى عنه.
{ فَقَدْ فَازَ } أي: نجا وظفر بالكرامة.
{ فَوْزاً عَظِيماً } أي: نجا نجاة عظيمة.
{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الآية.
قال ابن جبير والحسن الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على عباده، فلم تقدر على حملها، وعرضت على آدم فحملها. { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } أي لنفسه، { جَهُولاً }. أي جاهلاً بالذي له فيه الحظ. قال جويبر: فلما عرضت على آدم، قال: أي رب [وما الأمانة]؟ فقيل له: إن أدّيتَها جُزِيتَ وإن أضَعتَها عُوقِبْتَ، قال أي رب، حملتها بما فيها، قال: فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية فأُخْرِجَ منها.
وروي هذا القول عن ابن عباس، قال ابن عباس: عرضت الفرائض على السماوات والأرض والجبال فكرهن ذلك وأشفقن من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله ألا يقمن به، ثم عرضها على آدم فقبلها. والحمل ها هنا من الحمالة والضمان، وليس من الحمل على الظهر ولا في الصدر.
وقيل: الأمانة ها هنا أمانات الناس والصلاة والصوم والوضوء. وهذا القول كالأول لأنه كله فروض وأداء أمانات الناس فرض فهو القول الأول بعينه.
وقيل: هو ائتمان آدم ولده قابيل على أخيه هابيل فقتله، رواه السدي عن ابن عباس في حديث مرسل.
وقيل: المعنى: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة والجن والإنس، فأبين أن يحملنها، أي يحملن وزرها، وحملها الإنسان، يعني الكافر والمنافق.
وذكر القتبي: أن الله جل ذكره عهد إلى آدم وأمره وحرم عليه وأحل له فعمل بذلك، فلما حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من سيخلفه بعده ويقلده من الأمانة ما قلد، فأمره أن يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال بالشرط الذي شرطه الله عليه من الثواب إن وفى والعقاب إن عصى، فأبين أن يقبلن ذلك شفقاً من عقاب الله، ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فقبله بالشرط لجهله لعاقبة ما تقلد. ولذلك ظهر إيمان المؤمن ونفاق المنافق وكفر الكافر، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ } إلى آخر السورة.
فقال أبو إسحاق في الأمانة: إن الله جل ذكره ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأما السماوات والأرض والجبال فأعلمتا بطاعتهن له، قال تعالى:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [فصلت: 11] الآية، { { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]. وأعلمنا أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم (والملائكة) يسبحون لله، فأعلمنا أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة وتأديتها، - وأداؤها طاعة الله فيما أمر به وترك المعصية - وحملها الإنسان.
قال الحسن: الكافر والمنافق حملا الأمانة، أي: خاناها ولم يطيقاها. وتصديق ذلك قوله: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ } الآية.
وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره عرض على السماوات أن ينزل قطرها في إبَّانِه بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الأرض أن يخرج نباتها وأنهارها وما يكون / منها في آجاله بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الجبال أن تفجر أنهارها وتخرج ثمارها وأشجارها على أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت وأشفقت الجميع من العقاب، وعَرض على آدم أداء الفرائض على أن له الثواب وعليه العقاب، فقال: بين أذني وعاتقي فوكل معه ملائكة يسددونه ويوفقونه.
ثم قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }.
قال الضحاك: ظلوماً لنفسه، جاهلاً فيما احتمل بينه وبين ربه.
وقال قتادة: ظلوماً لها - يعني الأمانة - جهولاً عن حقها.
ثم قال: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ } إلى آخر السورة، أي: حملها الإنسان كي يعذب الله هؤلاء، ويتوب على هؤلاء. وقرأ الحسن: "وَيَتُوبُ" بالرفع.
ثم قال: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً } أي: ساتراً لذنوب المؤمنين والمؤمنات.
{ رَّحِيماً } أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها.
قال قتادة: "ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات": هما اللذان خاناها اللذان ظلماها - يعني الأمانة - هما المنافق والكافر "ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات" هما اللذان أدياها. وكذلك كان الحسن يقول.