التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ
٢١
قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ
٢٢
وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٢٣
قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
-سبأ

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } إلى قوله: { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
أي ما كان لإبليس على أصحاب الجنتين وغيرهم ممن اتبعه من حجة يضلهم بها إلا سلطناه عليهم لنعلم من يطيعه فينكر الجزاء والبعث ممن يعصيه فيؤمن بالجزاء والبعث، وذلك أمر قد علمه الله جل ذكره، ولكن المعنى: لنعلم ذلك علم مشاهدة، فعليها يقع الجزاء والثواب.
وقيل: المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم كما قال:
{ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } [القصص: 62]، أي على / قولكم وزعمكم.
فقوله: "إلا لنعلم" ليس في الظاهر بجواب لقوله: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي: من حجة لكنه محمول على المعنى، لأن معنى { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ }: ما جعلنا له عليهم من سلطان إلا لنعلم. فبهذا يتصل بعض الكلام ببعض ويظهر المعنى.
ثم قال تعالى: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } أي: وربك يا محمد على أعمال هؤلاء الكفرة وغير ذلك من الأشياء كلها حفيظ لا يغرب عنه علم شيء، مجاز جميعهم بما كسبوا، أي في الدنيا من خير وشر.
ثم قال تعالى: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من قومك: ادعوا من زعمتم أنه شريك لله فاسئلوهم يفعلوا بكم بعض ما فعل بهؤلاء الذين تقدم ذكرهم من خير ونعمة فإنهم لا يملكون زنة مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } أي: فليس يملكون شيئاً على الانفراد ولا على الشركة، فكيف يكون من هذه حاله شريكاً لمن يملك جميع ذلك، وإذا لم تقدر ألهتكم على شيء من ذلك، فأنتم مبطلون في دعواكم. فمفعول زعمتم جملة محذوفة دل عليها الخطاب، والتقدير: الذين زعمتم أنهم ينصرونكم من دون الله، يعني الملائكة لأنهم عبدوهم من دون الله وزعموا أنهم ينصرونهم.
ثم قال: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } أي: وما لله جل ذكره من آلهتهم من عوين على خلق شيء.
ثم قال تعالى: { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي: لا تنفع شفاعة شافع لأحد إلا لمن أذن الله له في الشفاعة، والله لا يأذن بالشفاعة لأحد من أهل الكفر، وأنتم أهل كفر فكيف تعبدون من تعبدون من دون الله زعماً منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله وليشفع لكم عند ربكم، "فَمَنْ" على هذا التأويل للمشفوع له، والتقدير: إلا لمن أذن له أن يشفع فيه.
وقيل: هي للشافع - يراد به الملائكة، أي لمن أذن له أن يشفع في غيره من الملائكة مثل قوله:
{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28].
قيل: من قال لا إله إلا الله. ودل على ذلك قوله: { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ }.
ثم قال تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي: كشف عنها الفزع. ومن فتح فمعناه: إذا كشف الله عن قلوبهم الجزع.
وقرأ الحسن: "فُزِّعَ" الراء والعين غير معجمة.
وروي عنه بالراء وعين معجمة.
والمعنى أزيل عن قلوبهم الفزع.
قال ابن عباس: "فزع عن قلوبهم" جُلِيَ.
وقال مجاهد: كشف عنهم الغطاء. وهم الملائكة، وذلك أن ابن مسعود قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش، سمع من دونه من الملائكة صوتاً كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم نادوا ماذا قال ربكم؟ فيقول من شاء الله: قال الحق وهو العلي الكبير.
وروى أبو هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير" .
وقال ابن جبير: ينزل الأمر من عند رب العزة إلى سماء الدنيا فيسمعون مثل وقع الحديد على الصفا، فيفزع أهل السماء الدنيا حتى يستبين لهم الأمر الذي نزل فيه فيقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا أراد الله جل ذكره أن يُوِحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رَجْفَةٌ - أو قال رعدة شديدة - خوفاً من الله، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعِقُوا وَخَرُّوا لله سجداً فيكون أول من يرفع رأسه جبريل صلى الله عليه وسلم، فيكلمه الله جل وعز من وَحْيِهِ بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة صلى الله عليهم، كلما مرَّ بسماء سألته ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل صلى الله عليه وسلم: قال الحق وهو العلي الكبير. قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله عز وجل" .
قال قتادة: يوحي الله جل ذكره إلى جبريل / صلى الله عليه وسلم فتفرق الملائكة مخافة أن يكون شيئاً من أمور الساعة، فإذا أجلي عن قلوبهم وعلموا أن ذلك ليس من أمور الساعة، قالوا: ماذا قال ربكم.
وقال الضحاك: زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، فإذا أرسلهم الرب وانحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجداً، وهذا كلما مروا عليهم يفعلون ذلك من خوف الله.
وذكر ابن سحنون محمد. حدثنا بسنده إلى ابن عباس أنه قال: إن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صوتاً كصوت الحديد وقع على الصفا فيخرون سجداً، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقَّ وهو العلي الكبير.
وروى محمد حدثنا بسنده إلى ابن مسعود أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فإذا قاموا نادوا يا جبريل ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحقَّ، فينادون الحق الحق وهو العلي الكبير. وقال ابن زيد: هذا في بني آدم عند الموت أقروا بالله حين لم ينفعهم الإقرار.
فالمعنى فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وما كان يضلهم، أي: قالوا: ماذا قال ربكم، فيكون هذا الكلام مردوداً على من تقدم ذكره من الذين صدق عليهم إبليس ظنه، وتكون الأقوال المتقدمة مردودة على { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي لمن أذن له من الملائكة أن يشفع. و { ٱلْعَلِيُّ } الجبار و { ٱلْكَبِيرُ } السيد.
ثم قال تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماوات والأرض؟، أي: من ينزل عليكم الغيث من السماء ويخرج النبات من الأرض لأقواتكم ومنافعكم؟
ثم قال تعالى: { قُلِ ٱللَّهُ } وفي الكلام حذف، أي: فإن قالوا لا ندري فقل: الله، وكذلك كل ما كان مثله قد حذف منه الجواب لدلالة الكلام عليه.
ثم قال تعالى: { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: أحدنا على خطأ في مذهبه، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ثم حذف "هدى" وقد علم المعنى في ذلك كما تقول، أنا أفعل كذا وأنت تفعل كذا وأحدنا مخطئ، وقد عُرف من هو المخطئ.
و { لَعَلَىٰ هُدًى } خبر عن إياكم، وخبر الأول محذوف لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون خبراً للأول، وهو اختيار المبرد.
فيكون خبر الثاني هو المحذوف.
ولو عطفت على الموضع فقلت: وأنتم لكان لعلى هدى خبراً للأول لا غير.
وقيل: المعنى، وإنا لعلى هدى وإياكم لفي ضلال مبين. "أو" بمعنى الواو. وهو قول أبي عبيدة.
وقال البصريون: أو على بابها: وليست للشك، وإنما تكون في مثل هذا في كلام العرب تدل على أن المخبر لم يرد أن يبين، وهو عالم بالمعنى لكنه لم يرد أن يبين من هو المهتد.
وقيل: أو على بابها، ولكن معنى الكلام الانتقاص للمشركين والاستهزاء بهم، أي: قد بين أن آلهتهم لا ترزق شيئاً ولا تنفع ولا تضر، وهو مثل قولك للرجل: والله إنَّ أحدنا لكاذب، وقد علمتَ من هو الكاذب، ولكن أردت توبيخه واستنقاصه وتكذيبه فدللت عن ذلك بلفظ غير مكشوف. فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يكذبهم ويعيرهم في دينهم بلفظ غير مكشوف.