التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
٤١
ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ
٤٢
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٤٣
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
٤٤

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } - إلى قوله - { إِنَّهُ أَوَّابٌ }، أي: واذكر يا محمد أيوب إذ نادى ربه مستغيثاً به مما نزل به.
{ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }.
قال قتادة: هو ذهاب المال والأهل، والضر الذي أصابه في جسده، ابتُلي سبع سنين وأشهراً ملقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه، وعظم له الأجر، وأحسن عليه الثناء.
قال السدي: معناه: بنصب في جسدي، وعذاب في مالي.
وروى الطبري عن وهب بن منبه أنه قال: كان أيوب صلى الله عليه وسلم رجلاً من الروم من ذرية عيصا بن إسحاق بن إبراهيم. ومن الرواة من يقول في عيصا: العيص بن إسحاق.
وروي أن أيوب تزوج ابنة يعقوب واسمها ليا؛ وهي التي أقسم أيوب ليضربها مائة ضربة، فبَّر الله عز وجل يمينه. وكانت أم أيوب بنت لوط.
وقيل: كانت زوجة أيوب: رحمة ابنة أفريق بن يوسف بن يعقوب.
قال وهب: إن إبليس اللعين سمع تجاوب ملائكة السماوات بالصلاة على أيوب حين ذكر ربه وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسدُ والبغيُ، فسأل الله عز وجل أن يسلطه عليه ليفتنه عن دينه، فسلط على ماله دون جسده وعقله، فأذهب الله ماله كله، فشكر أيوب ربه عز وجل ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه سبحانه. فسأل إبليس الله عز وجل أن يُسلطه على ولده، فأهلك ولده، فشكر أيوب ربه ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه تعالى. فسأل إبليس الله أن يسلطه على جسده، فسلط عليه دون لسانه وقلبه وعقله، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده؛ فصار أمره إلى أن تناثر لحمه، فأخرجه أهل القرية من القرية إلى كناسة خارج القرية، فلم يغيره ذلك عن ذكر (ربه وعبادته). قال ابن عباس: لما أصاب أيوب البلاء، أخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس. فجاءته امرأة أيوب، فقالت له: أتداوي رجلاً به علة كذا وكذا؟
قال: نعم، بشرط على أني (إن شفيته قال لي): أنت شفيتني لا أريد منه / أجراً غير هذا. فجاءت امرأة أيوب إلى أيوب، فقال: ذلك الشيطان! والله لئن بَرَأْتُ لأضربنك مائة فلما برأ أخذ شمراخاً فيه مائة عرجون فضربها به ضربة.
فيكون "النُّصْبُ" على هذا، ما ألقاه الشيطان إليه ووسوس به إلى امرأته.
وقرأ الحسن: "بَنَصَبٍ" بفتح النون والصاد. وهما لغتان، كالحُزْن والحَزَن.
وقيل: من ضم النون جعله جمع نَصَب، (كَوَثَن وَوُثْن).
فأما قوله:
{ { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3]"، فهو جمع نصاب.
وقوله { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }.
في الكلام حذف، والتقدير: فاستجبنا له إذ نادى، وقلنا له اركض برجلك الأرض، أي: حركها وادفعها برجلك. والركض: حركة الرجل.
قال المبرد: الركض: التحريك، ولهذا قال الأصمعي: يقال: رَكَضْتُ الدابة، ولا يقال: رَكَضَتْ (هي، لأن الركض حركة الرِّجْلِ من راكبها، ولا فعل لها في ذلك الوقت.
وحكى سيبويه: (ركضتُ) الدابة فركضت، مثل جَبَرْتُ العظم فجبر.
قوله: { هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }. قال قتادة: "ضرب برجله أرضاً يقال لها الجابية، فإذا عينان تنبعان، فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى".
قال وهب: فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله عز وجل عنه كل ما كان فيه من البلاء.
قال الحسن: فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها فذلك قوله: { هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فالموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلاً.
ثم قال تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ }.
قال مجاهد: رَدَّ الله عليه أهله وأعطاه مثلهم معهم في الآخرة.
وقال الحسن وقتادة: فأحيا الله جل وعز له أهله بأعيانهن وزاده في الدنيا مثلهم. (وهو قول ابن مسعود).
وقيل: إنما رد الله عليه من غاب من أهله وولده مثل من مات منهم، وأعطي من نسلهم مثلهم.
وقوله: { رَحْمَةً مِّنَّا } أي: رحمناه رحمة.
وقال الزجاج: نصب رحمة على أنه مفعول له.
ثم قال: { وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }، أي: فعلنا به ذلك للرحمة وليتذكر وليتعظ به أولوا العقول إذا ابتلوا فيصبرو كما صبر أيوب.
وروي أن أيوب كان نبياً في عهد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم. وكان عمر أيوب ثلاثاً وتسعين سنة، وذا الكفل هو ولد أيوب، واسمه شبر بن أيوب. وفيه اختلاف، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشر سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان. فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين! قال له صاحبه: وما ذاك؟! قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال له أيوب: ما أدري ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله - أي: يحلفان به - فأرجع إلى بيتي (فأكفر عنهما) كراهية أن يذكر الله إلا في حق. قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، قال: فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله جل ذكره إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب. فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على خير ما كان. فلما رأته قالت: بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله، هذا المبتلى؟ فوالله - على ذلك - ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً! قال: فإني أنا هو!!
قال: وكان له أندران: أندر القمح، وأندر الشعير قال: فبعث الله عز وجل سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض"
.
وقوله تعالى: { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } الضغث: ما يجمع من شيء من الرطب ويحمل الكف من الحشيش أو الشماريخ ونحو ذلك. قال ابن عباس، أُمر أن يأخذ حزمة من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضربها به.
قال الحسن مكث أيوب مطروحاً على كناسة سبع سنين وأشهراً، ما يسأل الله أن يكشف ما به. قال: وما على الأرض أكرم على الله من أيوب. فقال بعض الناس: لو كان لرب هذا فيه حاجة ما ضيع هذا. قال: فعند ذلك / دعا أيوب ربه فكشف ما به.
قال قتادة: كان إبليس قد تعرض لامرأته فقال لها: لو تكلمت كذا وكذا شفيته. فحلف أيوب لئن شفاه الله ليجلدنها مائة جلدة. فأمر أن يأخذ أصلاً فيه تسعة وتسعون قضيباً، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة فيبر من يمينه ويخفف الله بذلك عن امرأته.
قال الضحاك: ضغثاً، يعني: من الشجر الرطب. كان حلف على يمين فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه فضرب به ضربة واحدة فَبَرَّت يمينه، وهو في الناس اليوم: يمين أيوب. من أخذ بها فهو أحسن.
قال عطاء: هذا لجميع الناس، وقال مجاهد وغيره: هو خاص لأيوب، لا يعمل به غيره ولا يجزيه، وهو قول مالك، وهو قول جماعة العلماء إلا الشافعي فإنه أجاز لمن حلف على عشر ضربات فضرب بشمراخ فيه عشر قضبان مرة فأصابت المضروب أنه يبر قال ابن جبير: يعني بالضغث قبضة من المكانس.
ثم قال تعالى: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً }. أي: على البلاء.
{ نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }، أي: رجاع عن معصية الله إلى طاعته.
قال ابن عباس: اتخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس، فأتته امرأة أيوب، فقالت: إن هاهنا إنساناً مبتلى من أمره كذا، هل لك أن تداويه؟ قال: نعم، على أني إن شفيته أن يقول كلمة واحدة. يقول: أنت شفيتني؛ لا أريد منه أجراً غيرها. فأخبرت بذلك أيوب. فقال: ويحك! ذلك الشيطان! لله عَلَيَّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة. فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً (فيضربها به). فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها به ضربة واحدة.
وقال غير ابن عباس، إنما نذر أن يضربها حين باعت شعرها بالطعام فافتقده وخافها على نفسها.
ويروى أن أيوب عليه السلام لم يدع في بلائه، وصبر حتى نال ثلاثة أشياء، فعند ذلك دعا الله عز وجل: وذلك أن صديقين له بالشام بلغهما خبره فتزودا ومضيا لزيارته فوجداه في منزله لم يبق منه إلا عيناه، فقالا له: أنت أيوب! فقال: نعم فقالا له: لو كان عملك - الذي رأيناه - يُفْضَى به إلى الله عز وجل ما لقيت الذي نرى. فقال لهما: وأنتما تقولان ذلك لي! فَبَلَغَ ذلك منه.
والثانية أن امرأته قطعت ثلاثة ذوائب لها وباعتها في طعامه. فلما علم ذلك، عَظُمَ عليه، وبلغ ذلك منه. فهذه ثانية والثالثة: قبول امرأته من إبليس إذا أراد أن يحتال عليها، فعند ذلك تواعدها، وأقسم لئن شفاه الله ليضربنها مائة ضربة. وعند ذلك دعا إلى الله فشفاه الله.