التفاسير

< >
عرض

وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ
٦٨
وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٦٩
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ
٧٠
-الزمر

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ } - إلى قوله - { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }، أي: ونفخ إسرافيل في القرن فمات من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. وهذه هي النفخة الثانية.
وقيل: الصور جمع صورة.
فالمعنى: ونفخ إسرافيل في صورة بني آدم فماتوا. والأول أكثر.
وقوله: { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ }. قال السدي وغيره: هو جبريل وميكائيل وملك الموت.
وكذلك روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يموتون في هذه النفخة (صلوات الله عليهم) ثم يموتون بعد ذلك، فلا يبقى إلا الله الحيّ القيوم، ثم يحيي الله تعالى إسرافيل عليه السلام ويأمره أن ينفخ في القرن لإحياء الخلق بإذن الله عز وجل. والله المميت للخلق بالنفخة التي هي نفخة الصعق وهو المحيي للخلق بالنفخة التي هي نفخة الأحياء" .
قال ابن جبير: عنى بذلك (شهداءهم) حول العرش (متقلدو السيوف).
وقيل: استثناء الشهداء، إنما هو في [نفخة الفزع. وهي الأولى.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ينفخ في الصور ثلاث نفخات]: النفخة الأولى، نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله جل ذكره إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، فقال أبو هريرة: يا رسول الله، فمن استثنى حين يقول: { فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ }؟
قال: أولئك الشهداء. (وإن ما يصير) الفزع إلى الأحياء. أولئك أحياء عند ربهم يرزقون (ووقاهم الله) فزع ذلك اليوم وأمنهم.
ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل بنفخة الصعق فيقول: نفخة الصعق، فيصعق أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله فإذا هم خامدون.
ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول: يا رب، قد مات أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شئت، فيقول له وهو أعلم: من بقي؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل.
(وينظر الله العرش، فيقول: يا رب، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل!).
فيقول له جل وعز: اسكت، إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي.
ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب، مات جبريل وميكائيل فيقول الله عز وجل وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي (لا تموت وبقي) حملة عرشك وبقيت أنا، فيقول له: فليمت حملة عرشي، فيموتون، ويأمر الله عز وجل العرش فيقبض الصور.
ثم يأتي ملك الموت، فيقول: يا رب، قد مات حملة عرشك، فيقول: ومن بقي؟ - وهو أعلم - فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي خُلِقْتَ لما رأيت فمَتْ، فيموت"
.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني ملك الموت فقال: يا محمد، اختر: نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً. فأومأ إليَّ جبريل أن تواضع.
قال: فقلت: نبياً عبداً. فأعطيت خصلتين: جعلت أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، فأرفع رأسي فأجد (موسى آخذاً) بالعرش فالله أعلم، بعد الصعقة الأولى أم لا"
.
وفي حديث آخر: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فأكون أول من يرفع رأسه. فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع / رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل" .
وفي حديث آخر: "فلا أرى أحداً إلا موسى متعلقاً بالعرش، فلا [أدري، أممن استثنى] الله جل ثناؤه ألا تصيبه النفخة أو بعث قبلي" .
وقوله: { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ }، يعني: نفخة البعث.
{ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش، فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة" .
عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين النفختين [أربعون]، ثم ينزل الله جل ذكره من السماء ماء فينبتون كما يَنْبُتُ البقْلُ. قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عَظْم واحد وهو عَجْبُ الذَّنَب ومنه يُرَكَّبُ الخلق يوم القيامة" .
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتأولون الأربعين أربعين سنة.
وقال الحسن: لا أدري، أهي أربعون سنة، أم أربعون شهراً، أم أربعون ليلة، أم أربعون ساعة.
قال قتادة: ذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مَطَر يُقَالُ له مطر الحياة، حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نبات البقل، ثم ينفخ فيه الثالثة فإذا هم قيام ينظرون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"يبعث الله المؤمنين يوم القيامة جُرْداً مُرْداً بنو ثلاثين سنة" .
وقال أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، فلا يبقى خلق الله بين السماوات والأرض - إلا من شاء الله - إلا مات. ثم يرسل الله من تحت العرش مَنَيَّاً كمني الرجال فتنبت جسمانهم ولحمانهم من ذلك كما تنبت الأرض، ثم قرأ عبد الله { { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } [فاطر: 9] - إلى قوله - { { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } [فاطر: 9] قال: ويكون بين النفختين ما شاء الله ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها.
ثم قال تعالى ذكره: { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا }، أي: أضاءت.
يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وَصَفَت، وَشَرَقَت إذا طلعت.
وذلك حين يجيء الرحمان لفصل القضاء بين خلقه.
وروي أن الأرض يومئذ أرض من فضة تضيء وتشرق بنور ربها لا بشمس ولا بقمر.
والمعنى: أضاءت الأرض بنور (خلقه الله).
فإضافة النور إليه تعالى على طريق خلقه له مثل قوله: { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } تبارك وتعالى.
وقيل: معناه: أشرقت بعد الله عز وجل وحُكمه الحق تبارك وتعالى لأن له نوراً كنور الشمس وضياء القمر، هو أعظم وأجل من ذلك، ليس كمثله شيء. وهذا كقوله عز وجل:
{ { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [النور: 35]، أي: بِهُدَاه يهتدي أهل السماوات والأرض. لم يُرِدِ النُّور الذي هو الضياء، ولو كان ذلك، لم يوجد ظلام لأنه باق في الليل والنهار.
وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"تنظرون إلى الله سبحانه لا تضامون في رؤيته" .
وقد اختلف في هذه اللفظة على أربعة أوجه:
- لا تُضامُون - مُخَفَّفاً -، أي: لا يلحقكم ضيم كما يلحق في الدنيا في النظر إلى الملوك.
- والوجه الثاني: لا تُضامُّون - مشدداً -، أي: لا ينضم بعضكم لبعض ليسأله أن يريه إياه.
- والوجه الثالث: (لا تُضارُون) - مخففاً -، أي: لا يلحقكم ضير في رؤيته، من ضارَه يضيرُه.
- والوجه الرابع: (لا تُضارُّون) - مشدداً، أي: لا يخالف بعضكم بعضاً في صحة رؤيته. يقال: ضاررته مضارة، أي: خالفته.
ثم قال تعالى ذكره: { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ }، يعني: كتاب أعمال العباد وحسابهم.
وقيل: هو اللوح المحفوظ.
{ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ }، أي: جيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابت به] أممهم وردت عليهم في الدنيا.
والشهداء، يعني: الذين يشهدون على الأمم. وهو قوله تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة: 143]، أي: عدلاً { { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [البقرة: 143].
وقيل: عنى بالشهداء هنا: الذي قتلوا في سبيل الله. والأول (أولى وأبين).
وقال السدي: الشهداء: الذين استشهدوا في طاعة الله عز وجل.
وقال ابن زيد: هم الحفظة يشهدون على الناس بأعمالهم.
وقوله: { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ }، أي: قضى / بين النبيئين وأممهم بالحق؛ فلا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يظلم أحد فينقص من عمله. ثم قال تعالى:
{ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ }، أي: جزاء عملها من خير وشر.
{ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } في الدنيا من طاعة له أو معصية. فيثيب المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولا تظلم نفس شيئاً.