التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ
١٠
ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ
١١
-فصلت

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى: { "وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } - إلى قوله - { طَآئِعِينَ" }.
أي: وجعل في الأرض جبالاً تثقلها أن تميل) بمن فوقها، وذلك يوم الثلاث على ما تقدم ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لليهود حين سألوه:
"وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات (بقين) منه، (فخلق في أول ساعة من الثلاث: الآجال حين يموت من مات)، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وخلق في الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة" .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم "أن اليهود قالت له بعدما أجابهم بهذه الجوابات، ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى (على) العرش قالوا (قد أصبت) لو أتممت فقلت: ثم استراح! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم غضباً شديداً وأنزل الله عز وجل عليه:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }"
.
وقال ابن عباس: خلق الله يوماً واحداً سماه الأحد، ثم خلق ثانياً سماه الأثنين، ثم خلق ثالثاً سماه الثلاثاء، ثم رابعاً (سماه الأربعاء)، ثم خامساً سماه الخميس. قال: فخلق الله عز وجل الأرض في يومين الأحد والأثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء - فلذلك يقول الناس: هو يوم ثقيل - وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطيور والوحوش والهوام والسباع يوم الخميس، وخلق الإنسان - وهو آدم - يوم الجمعة ففرغ من خلق كل شيء يوم الجمعة.
وقال أبو هريرة:
"أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه، يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة" ، وعن ابن عباس وعبد الله بن سلام أنهما قالا: ابتدأ الله جل ذكره خلق الأرض يوم الأحد، فخلق سبع أرضين في يوم الأحد ويوم الإثنين، ثم جعل في الأرض رواسي، وشق الأنهار، وخلق الأشجار، وجعل المنافع في يومين: يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، ثم استوى إلى السماء فجعلها سبع سماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة.
قال ابن عباس: ولذلك سميت يوم الجمعة لأنها اجتمع فيها الخلق.
قال ابن سلام: فقضاهن سبع سماوات في آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم خلق آدم فيها على عجل وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة.
قال مجاهد: كل يوم كألف سنة مما تعدون.
قال بعض العلماء: لو أراد الله تعالى ذكره لخلقها كلها في وقت واحد، ولكنه أراد ما فيه الصلاح، وذلك لتتبين ملائكته أثر الصنعة شيئاً بعد شيء فتزداد في بصائرها.
وقوله تعالى / { وَبَارَكَ فِيهَا }، معناه: جعلها دائمة الخير لأهلها.
وقال السدي: بارك فيها، أي أنبت شجرها.
وقيل: معناه: زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبته فيها.
والبركة: الخير الثابت.
وقوله: { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا }، أي قدر فيها أرزاق أهلها ومعايشهم قاله الحسن وابن زيد.
وقال قتادة: أقواتها: صلاحها.
وعن قتادة أيضاً: وقدر فيها أقواتها، أي: خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها وساكنها من الدواب كلها.
وقال مجاهد: وقدر فيها أقواتها، يعني: من المطر (الذي به تنبت) الأقوات لجميع الخلق.
وقال عكرمة: "وقدَّر فيها أقواتها"، معناه: قدر في كل بلد منها ما لم يجعله في الآخر منها ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، ينقل من بلد إلى بلد ما ليس في أحدهما من المتاع والطعام وغيره.
وروي مثل هذا عن مجاهد أيضاً، وهو قول الضحاك.
وقوله: { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ }، أي: خلق (ذا وذلك) في أربعة أيام؛ أي: خلق الأرض والجبال، وبارك في الأرض وقدر فيها أقواتها، كل ذلك خلقه في أربعة أيام، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الأربعاء.
وقد غلط قوم فأضافوا أربعة أيام كاملة إلى اليومين المتقدمين. وهذا كقولك: بنيت الدار في يومين وأتممتها وفرغت من جميع إصلاحها في ثمانية أيام، فاليومان داخلان في الثمانية وبهما تمت الثمانية (لأنها) (كلها كشيء) واحد كما كانت الأرض وما فيها من مصالحها شيئاً واحداً. فدخلت العدة الأولى في الثمانية.
ولو قلت: اشتريت الدار في يومين، والعبيد والثياب في أربعة أيام، لم تدخل اليومان في الأربعة لاختلاف أنواع المشترى، ولا يكون ذلك إلا ستة أيام. فاعرف الفرق.
وقوله: { سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }"، أي: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض والجبال والشجر والأنهار والبحار وقدر الأقوات وغير ذلك من المنافع، قاله قتادة والسدي، وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: معناه: سواه لمن سأل ربه شيئاً مما به الحاجة إليه من الأرزاق، فإن الله قدر له من الأقوات في الأرض على قدر مسألته، وكذلك قدر لكل سائل؛ قاله ابن زيد.
وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين. وإليه نزع ابن زيد في قوله. وهو اختيار الطبري.
فالمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم الحاجة إليه وما يصلحهم، وقد تقدم الكلام في إعراب "سواء" وقراءته.
ولو شاء جل ذكره لخلق جميع ذلك وأضعافه في وقت واحد، وهو الوقت الذي لا وقت أسرع منه، ولا أقل تقضياً منه، فهو على ذلك قادر، وإنما خلق جميع ذلك شيئاً بعد شيء لتستدل ملائكته استدلالاً بعد استدلال على قدرته. والله أعلم بذلك.
ثم قال تعالى: { "ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ }، أي: ثم ارتفع إلى السماء ارتفاع قدرة لا ارتفاع نقلة.
"وهي دخان"، روي أن الدخان كان من تنفس السماء.
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }، أي: قال لهما جيئا بما خلقت فيكما. أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرضي فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات وتشقق عن الأنهار، فقالتا: أتينا طائعين بما أحدث فينا من خلقك؛ هذا معنى ما روى مجاهد عن ابن عباس.
ومعنى إخباره تعالى عن السماء والأرض بالقول أنه جعل تبارك وتعالى فيهما ما يميزان به ويجيبان عما قيل لهما وذلك لا يعجزه تعالى إذا أراده.
وقال المبرد: هذا إخبار عن الهيئة، أي: صارتا في هيئة من قال ذلك بتكوينه تعالى لما أراد فيهما، كقول الشاعر: امتلأ الحوض، وقال: قطى، أي: صار في هيئة من يقول ذلك.
وقيل: معناه أنه أخبرنا الله (عز وجل) بما نعرف من سرعة الإجابة فخبر عن السماوات والأرض بسرعة التكوين على ما أراد وأما قوله: { طَآئِعِينَ }، فقال الكسائي معناه: أتينا بمن فينا طائعين.
وقيل: إنما جاء ذلك بالياء والنون لأنه أخبر عنهما كما يخبر عمن يعقل من الذكور فجاء على لفظ الإخبار عمن يعقل.
قال ابن عباس: خلق الله الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فلذلك قال:
{ { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30].
قال وهب بن منبه: خلق الله تعالى الريح فسلطها على الماء فضربت الماء حتى صار أمواجاً وزبداً، فجعل يفور من الماء دخان ويصعد في الهواء، فأمر الله تبارك وتعالى الزبد فجمد فمنه الأرض، وأمر الأمواج فجمدت فجعلها جبالاً رواسي، { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ / فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ }". وكانت السماء ملتصقة بالأرض فأمرها فارتفعت من الأرض على الهواء. { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا }. وقال للسماء الدنيا: كوني زمردة خضراء، وللثانية كوني فضة بيضاء، والثالثة كوني ذرة حمراء، وللرابعة كوني ذرة بيضاء وللخامسة: كوني ذهبة حمراء، وللسادسة: كوني ياقوتة صفراء، وللسابعة: كوني نوراً على نور يتلألأ، وفي كل سماء ملائكة قد طبقها بهم بين راكع وباك ومسبح وقائم.