التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
٦٢
وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
٦٣
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٦٤
فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ
٦٥
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٦٦
ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ
٦٧
يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
٦٨
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ
٦٩
ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ
٧٠
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٧١
وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٧٢
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ
٧٣
-الزخرف

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى: { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ } - إلى قوله -: { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ }، أي: ولا يمنعكم الشيطان من اتباع الحق.
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي: ظاهر العداوة.
ثم قال تعالى: { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ }، أي: ولما جاء عيسى) بني إسرائيل بالآيات الواضحات. يعني: المعجزات.
وقيل: بالبينات: بالإنجيل: قاله قتادة، قال لهم قد جئتكم بالحكمة.
قال السدي: الحكمة ها هنا النبوءة.
وقيل: الحكمة: الإنجيل.
ثم قال: { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ }.
قال أبو عبيدة: "بعض" بمعنى: "كل" وَرَدَّ ذلك أكثر العلماء لأن فيه التباسَ المعاني وفسادَ الأصول ونقضَ العربية.
والمعنى عند الزجاج: ولأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه. (فبين لهم) من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقيل معناه: إنه يبين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على مقدار ما سألوه عنه، ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عن بيانها.
قال مجاهد معناه: ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة.
وقيل المعنى: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موسى في أشياء من أمر دينهم، وأشياء من أمر دنياهم، فبين لهم عيسى بعض ما اختلفوا فيه وهو أمر دينهم خاصة، فلذلك قال: { بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ }.
ثم قال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ }، أي: فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وأطيعون فيما أقول لكم.
{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ }، أي: إن الذي يستوجب الإفراد بالعبادة هو الله.
{ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }، أي: هذا الذي أمرتكم به هو الطريق المقوم الذي لا يوصل إلى رضى الله إلا باتباعه.
ثم قال تعالى: { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ }.
قال قتادة: الأحزاب هنا، هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى.
ذكر ابن حبيب أن النصارى افترقت في عيسى بعد رفعه على ثلاث فرق:
فرقة قالت: هو الله، هم اليعقوبية قال الله عنهم:
{ { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: 17].
وفرقة ثانية قالت: هو ابن الله، وهم النسطورية. وهم الذين قال الله فيهم:
{ { وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30].
وفرقة ثالثة قالت: هم ثلاثة: الله إله، وعيسى إله، وأمه إله وهم الملكانية. وهم الذي قال الله فيهم:
{ { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [المائدة: 73].
فالنصارى فيه إلى اليوم على هذه الثلاث فرق. وكانوا فيه - إذ كان بين أظهرهم - على فرقتين: فرقة آمنت به، وفرقة كفرت به - وهم الأكثر - ثم لما رفع اختلفوا / فيه على هذه الأقوال الثلاثة.
وقال السدي: "الأحزاب: اليهود والنصارى".
ومعنى من بينهم، أي: من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته.
ثم قال: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }، أي: فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله من عذاب يوم أليم، وهو يوم القيامة.
ثم قال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً }، أي: هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى إلا الساعة (بغتة، أي: فجأة).
"وأن" في موضع نصب بدل من "الساعة" بدل الاشتمال.
{ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }، أي: لا يعلمون بمجيئها.
ثم قال تعالى: { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: المتخالون على معاصي الله في الدنيا يوم تقوم الساعة يتبرأ بعضهم من بعض إلا الذين تخالوا فيها على تقوى الله.
قال ابن عباس: "كل خلة في الدنيا هي عداوة يوم القيامة، إلا خلة المتقين".
وقال مجاهد، معناه: الأخلاء في الدنيا على معصية الله متعادون يوم القيامة.
ثم قال تعالى: { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } وفي الكلام حذف، أي: إلا المتقين، فإنه يقال لهم يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا، لأنكم قَدِمْتُمْ على ما هو أفضل منها.
وروي (أن الناس) ينادون بهذا النداء يوم القيامة فيطمع فيها من ليس من أهلها، حتى إذ سمع قوله: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } (فييئس منها عند ذلك كل أحد إلا المسلمين ومعنى "وكانوا مسلمين"، أي: وكانوا أهل خضوع لله عز وجل بقلوبهم.
وقيل: { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ } الرسل واستسلام له.
وروي عن بعض التابعين أنه قال يخرجون من القبور وكلهم مدعين فيناديهم منادٍ: { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } فيطمع فيها الخلق كلهم، فيتبعها: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ }. فيئس منها الخلق إلا أهل الإسلام.
قال (ابن عباس): يخرجون فينظرون إلى الأرض غير الأرض التي عهدوا، (وإلى الناس غير الناس الذين عهدوا).
وكان ابن عباس يتمثل بعد هذا القول بقول الشاعر:

فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الذِينَ عَهِدتَّهُمْ ولا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْرِفُ

ثم قال تعالى: { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ }، أي: تكرمون، قاله ابن عباس.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن تحبرون فقال:
"اللَّذَّةُ والسَّماعُ بِمَا شَاءَ اللهُ (مِن ذِكْرِهِ)" .
"فالذين" يحتمل أن يكون مبتدأ "وادخلوا" الخبر على حذف القول، أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة.
ويجوز أن يكون نعتاً "للعباد" في موضع نصب، يدل على ذلك قوله: { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } وما بعده. فأتى بلفظ الخطاب.
ويدل على الوجه الأول قوله: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ } وما بعده، فأتى بلفظ الغيبة. فالعباد مخاطبون لأن المنادى مخاطب.
"والذين" لفظهم لفظ غيبة. فكلا (الوجهين له) دليل.
ثم قال تعالى: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ }، أي: يطاف على هؤلاء الذين آمنوا في الجنة بقصاع من ذهب وأكواب من ذهب، أي: يطوف عليهم بذلك الغلمان.
"والأكواب: التي ليست لها آذان"، قاله السدي.
وقال قتادة: هي دون الأباريق. وقيل: الكوب الإبريق المستدير الذي لا أذن له ولا خرطوم.
والمعنى: يطاف عليهم في الجنة بصحاف الطعام وأكواب الشراب من ذهب. فاستغنى بذكر الصحاف والأكواب عن ذكر الطعام والشراب لمعرفة السامعين بمعناه.
قال ابن جبير: إن أدنى أهل الجنة منزلة مَنْ له قصر فيه سبعون ألف خادم، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبتها. لو فَتَحَ بابه فضافَه أهل الدنيا لوسعهم، لا يستعين عليهم بشيء من غيره، وذلك قوله:
{ { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } [ق: 35] { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ }.
قال عبد الله بن عمر: (وما أحد) من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، (كل غلام على) عمل خلاف ما عليه صاحبه.
وقوله: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ }، أي: وفي الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون وتلذ أعينكم. { وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }، أي: ماكثون أبداً.
"وروى سفيان أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ فقال له: إنْ يُدْخِلكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَلاَ تَشَاءُ أََنْ تَرْكَبَ فَرَساً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطيرُ بِكَ في أَيِّ الجَنَّةِ شِئْتَ إِلاَّ فَعَلْتَ. فقال الأعرابي: يا رسول الله، إنى أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يَا أَعْرَابِيُّ، إِنْ يُدْخِلَكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَفِيها مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ لَكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ" .
وقال أبو أمامه: إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير فيقع في كفه نضيجاً فيأكل منه (حيث تشتهي) نفسه / ثم يطير، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده فيشرب منه ما يريد، ثم يرجع إلى مكانه.
وقال أبو طيبة السلمي: إن الشَّرْبَ من أهل الجنة لَتُظِلُّهُم السحاب، فقال فتقول: ما أمطركم؟ قال: فما يدعو داع شيئاً إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أتراباً.
ثم قال تعالى: { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }، (أي: وتلك الجنة أورثكموها الله عن أهل النار، بما كنتم تعملون) في الدنيا من الخير.
{ لَكُمْ فِيهَا }، أي: في الجنة. { فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ }، أي: من كل نوع.
{ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ }، أي: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم.
وقد قال ابن خالويه: إنما أشار إلى الجنة بإشارة البعيد فقال: "وتلك" وأشار إلى جهنم في (قوله: هذه) جهنم بإشارة القريب لتأكيد التخويف من جهنم لأن الله عز وجل قد يتفضل على عباده فيدخلهم الجنة بغير عمل كالأطفال والمجانين، ولا يعذب أحداً منهم إلا على ذنب اكتسبه، فحذرهم الله عز وجل في النار وقَرَّب الإشارة إليها، (أكثر مما شوقهم) إلى الجنة، فجعل جهنم كأنه يُنظر إليها كالحاضرة، تخويفاً منها.