التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٢٦
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٢٧
فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٨
وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ
٢٩
-الأحقاف

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ } إلى قوله: { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ }.
أي: ولقد مكنا عاد الذين أهلكوا بكفرهم فيما لم نمكن لكم أيها القوم فيه من الدنيا.
قال قتادة: أنبأنا الله عز وجل بأنه قد مكنهم / في شيء ولم يمكنا.
قال المبرد: "ما" هاهنا بمعنى "الذي" و "إن" بمعنى "ما" وقيل إنَّ "إن" زائدة، ولا يعرف زيادة "إن" إلا في النفي، وإنما تكون زائدة في الإيجاب "أن" المفتوحة.
ثم قال: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً }.
أي: خلقنا لمن تقدم من عاد سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم وأبصاراً يبصرون بها آيات ربهم، وأفئدة أي: قلوب يعقلون بها الحق ويميزونه من الباطل، فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا نفعهم، إذ لم يستعملوه فيما أمروا به مما يقربهم إلى الله عز وجل إذ كانوا يجحدون بآيات الله، أي: لم ينفعهم ما أعطوا من الجوارح ولا وصلوا بها إلى ما يقربهم إلى الله إذ كانوا يكفرون بآيات الله ورسله.
ثم قال: { وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
أي: وحلّ بهم عقاب استهزائهم بالرسل، وهذا كله تهديد ووعيد من الله جلّ ذكره لقريش وتحذير لهم، أي: يحل بهم ما حل بعاد. وأن يبادروا بالتوبة قبل النقمة.
ثم قال: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ }.
أي: من أهل القرى، هذا مخاطبة لأهل مكة من قريش وغيرهم أعلمهم الله أنه قد أهلك أهل القرى التي حولهم بكفرهم كعاد وثمود، وأنه محل بهم مثل ذلك إن تمادوا على كفرهم.
ثم قال: { وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }.
أي: ووعظناهم بأنواع العظات وذكرناهم بضروب من الذكر ليرجعوا عن كفرهم، فأبوا إلا الإقامة على الكفر فأهلكناهم، ففي الكلام حذف، وهو معنى ما ذكرنا من إقامتهم على الكفر وهلاكهم على ذلك.
ثم قال: { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ [قُرْبَاناً آلِهَةَ }.
أي: فهلا نصر هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله] وتقربوا بعبادتهم إلى الله بزعمهم، بل حلّ بهم الهلاك، ولا ناصر لهم من دون الله، وهذا احتجاج من الله لنبيه عليه السلام على مشركي قومه، أن الآلهة التي يعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تنقذ من عبدها من ضر، فكذلك أنتم يا قريش في عبادتكم هذه الأصنام، إن أتاكم بأس الله ونقمته، لم تنقذكم آلهتكم منه كما لم تغن عمن كان قبلكم.
ثم قال: { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
أي: بل تركتهم آلهتهم فأخذت غير طريقهم إذ لم يصبها ما أصابهم من العذاب إذ هي حجارة وجماد فلم يصبها ما أصابهم فذلك ضلالها عنهم.
ثم قال: { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ }.
أي: وهذه الآلهة التي ضلّت عنهم هي كذبهم وافتراؤهم في قولهم أنها تقربنا إلى الله زلفى، و "الإِفْكُ" هنا مصدر في موضع المفعول، والمعنى وهذه الآلهة مَأفُوكُهُمْ: أي مكذوبهم لأن الإِفك إنما هو فعلُ الإفك، "وَقُرْبَاناً" منصوب "باتخذوا" و "آلِهَةٌ" بدل منه، ويجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون مفعولاً من أجله، وتنصب الآلهة باتخذوا في الوجهين.
وقرأ ابن عباس: (وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ)، جعله فعلاً ماضياً، فتكون "ما" في قوله: { وَمَا كَانُواْ } في موضع رفع عطف على المضمر في إفكهم، والمعنى: وذلك أرداهم وأهلكهم هو وما كانوا يفترون؛ أي: أهلكهم ذلك هو وافتراؤهم، وفيه قبح حتى يؤكده المضمر المرفوع.
ويجوز أن تكون "ما" في موضع رفع عطفاً على ذلك، والتقدير: وذلك افتراؤهم أهلكهم وأظلهم، "وما" في موضع رفع على قراءة الجماعة عطفاً على "إفكهم" وهي وما بعدها مصدر فلا تحتاج إلى عائد فإن قيل جعلتها بمعنى: "الذي" قدرتها محذوفة، والتقدير وما كانوا يفترونه.
وحكى الزجاج: وذلك أفكهم بالمد: بمعنى أكذبهم.
ثم قال: { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ }.
أي: واذكر يا محمد إذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، وصرفه إياهم هو الرجم الذي حل بهم بالشهب / من السماء عند الاستماع على عادتهم، فلما رجموا بالشهب ومنعوا مما لم يكونوا يمنعون منه قالوا: إن هذا الحادث (حدث في السماء لشيء) حدث في الأرض، فذهبوا يطلبون ذلك الحادث في الأرض حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً من سوق عكاظ يصلي بأصحاب الفجر، فسمعوا قراءته وذهبوا إلى أصحابهم منذرين، وهذا قول ابن جبير.
قال ابن عباس: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وكانت / الجن تقعد من السماء مقاعد للسمع فلما بعث الله نبيه عليه السلام حرصت السماء حرصاً شديداً، فرجمت الشياطين فأنكروا ذلك، وقالوا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً.
فقال إبليس اللعين: لقد حدث في الأرض حدث فاجتمع إليه الجن، فقال: تفرقوا في الأرض فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء، وكان أول بعث بعثه ركباً من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وسادتهم، فبعثهم الله إلى تهامة فاندفعوا حتى بلغوا وادي نخلة فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة فاستمعوه فلما سمعوه يتلو القرآن قالوا: أنصتوا، ولم يكن النبي عليه السلام يعلم بهم، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين، قال ابن عباس: وكانوا سبعة من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
وقال (زر بن حبيش): كانوا تسعة، قال ابن عباس: لم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن: لما أتوا ليستمعوا أعلم الله نبيه عليه السلام بمكانهم.
وقال قتادة: بل أمر رسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم، وروى عنه أنه قال لأصحابه:
" أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني فأطرقوا، ثم قالها لهم ثانية وثالثة فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب (الحجون) ثم خط رسول الله صلى الله عليه وسلم (على عبد الله خطاً). قال عبد الله: فجعلت الجن تهوي وأرى أمثال النسور تمشي، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلا القرآن، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا نبي الله ما اللغط الذي سمعت؟ قال: اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم فقضى [فيه] بالحق" .
"وروى جابر بن عبد الله وابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم سورة الرحمن فكلما قرأ النبي: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قالت الجن: لا بشيء من آلاء نعمائك نكذب ربنا فلك الحمد" . ولما قدم ابن مسعود الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هم نفر من الأعاجم، فقال: ما رأيت للذين قرأ عليهم نبي الله من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء. وروى معمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم خط على ابن مسعود خطاً ثم قال له: لا تخرج منه، ثم ذهب إلى الجن فقرأ عليهم القرآن ثم رجع إلى ابن مسعود فقال له: هل رأيت شيئاً؟ قال: سمعت لغطاً شديداً. قال: إن الجن تدارت في قتيل قتل بينهما فقضى فيه بالحق.
وسألوه الزاد، فقال: كل عظم لكم غداء، وكل روثة لكم خضرة، فقالوا يا رسول الله يقدرها الناس علينا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بأحدهما"
. وقد كثر الاختلاف في حديث ابن مسعود، وكثير من العلماء روى أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة أحد، وروى ذلك عن ابن مسعود قال: ما شهدها منا أحد، وعنه ما شهدها أحد غيري، وكانت قراءته عليهم بالحجون وقيل بنخلة، وأكثر المفسرين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلهم إلى قومهم لينذروهم عذاب الله، ومنهم من قال: بل مضوا من غير أمره وما علم عليهم إلا بعد ذلك.