التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ
٣٣
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
٣٤
نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ
٣٥
وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ
٣٦
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٧
وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ
٣٨
فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٩
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
٤٠
وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ
٤١
كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ
٤٢
أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ
٤٣
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
٤٤
سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ
٤٥
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ
٤٦
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٤٧
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
٤٨
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
٤٩
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ
٥٠
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٥١
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ } إلى آخر السورة الآيات أي: كذبت جماعة قوم لوط بما أنذرهم به لوط من الإيمان والوعد والوعيد.
ثم قال { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } أي: حجارة من السماء وقد تقدم ذكره في غير موضع.
{ إِلاَّ آلَ لُوطٍ } يعني بناته { نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ }.
ثم قال { نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا } نصب "نعمة" على أنها مفعول لها، ولذلك لا يتم الوقف على "سحر" أي: أنجيناهم من العذاب للنعمة من الله عليهم.
ثم قال { كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } أي: كما أنجينا آل لوط من العذاب، كذلك نجزي من شكر الله سبحانه، وآمن بإنذاره واتبع أمره وانتهى عن نهيه.
ثم قال: { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ } أي: حذرهم لوط قبل حلول العذاب لهم نقمة الله عز وجل لهم، فشكوا فيما توعدهم به وأنذرهم إياه.
ثم قال: { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } أي: راود قوم لوط لوطاً في أضيافه ليفعلوا بهم ما كانوا يفعلون بمن دخل قريتهم من الذكور.
{ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } أي: طمس على أعينهم، أي: غطينا عليها.
وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه عز وجل في عقوبتهم ليلة أتوا لوطاً وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه فصفقهم بجناحه فتركهم عمياً لا يرون يترددون.
قال ابن زيد: هؤلاء قوم لوط حين أرادوا من ضيفه طمس الله أعينهم. وقد كان ينهاهم عن عملهم الخبيث الذي كانوا يعملون فقالوا له إنه لا نترك عملنا فإياك أن تنزل أحداً أو تضيفه أو تدعه ينزل عندك فإنا لا نتركه، قال فلما جاءه المرسلون خرجت امرأته الشقية فأتتهم فدعتهم وقالت لهم تعالوا فأنه قد جاء قوم لم أر قوماً أحسن وجوهاً ولا أحسن ثياباً ولا أطيب أرواحاً منهم، قال فجاءوه يهرعون إليه فقال: "إِنّ هَؤلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاُتّقَواَ اُّللهَ / وَلاَ تُخزُوُنِ فِي ضَيْفِي قالَوُاْ أَوَ لَمْ تَنْهَكَ عَنِ اُلْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِيَ هنّ أَطُهَرُ لَكُمْ" فقال له جبريل ما يهولك من هؤلاء، قال أما ترى ما يريدون، قال إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك، قال فنشر جبريل عليه السلام جناحاً من أجنحته فاختلس به أبصارهم، وطمس أعينهم، فجعلوا يجول بعضهم في بعض.
وكذلك ذكر مجاهد مثل معنى هذا.
ثم قال { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي: ذوقوا عذابي الذي حل بكم، وعاقبة إنذاري لكم، وقيل إنه من قول الملائكة لهم أي: قالت الملائكة لهم فذوقوا عذاب الله، وعاقبة ما أنذركم به.
ثم قال { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } أي: ولقد صبحهم قوم لوط عند طلوع الفجر عذاب ثابت إلى يوم القيامة، وهو أن قلبت عليهم المدينة، وأرسلت الحجارة عليهم وعلى من غاب من المدينة وحلوا في عذاب إلى يوم القيامة. قال قتادة: استقر بهم العذاب إلى نار جهنم. /
ثم قال { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ } قد تقدم تفسير كل هذا.
ثم قال { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ } أي: جاء أتباع فرعون إنذارنا بالعقوبة لكفرهم بالله ورسوله.
{ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } أي: كذبوا بكل ما جاءهم به موسى صلى الله عليه وسلم فأخذهم الله بالعذاب أخذ منيع قادر على ما يريد، فأغرقهم أجمعين.
ثم قال { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } أي: أكفاركم يا قريش، (أي الذين إن يروا آية) يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، خير من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، وأخذهم العذاب لكفرهم، فيقولوا إنا ننجوا لشرفنا، بل ليس هم بخير منهم، فإذا كانوا قد هلكوا بكفرهم فما يؤمنكم أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب [وهذا] لفظ استفهام معناه التوقيف. حكى سيبويه: الشقاء أحب إليك أم السعادة.
قال ابن عباس معناه ليس كفاركم خيراً من وقوم نوح وقوم لوط.
ثم قال { أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ } [أي] أم لكم كتاب فيه براءة لكم من العذاب في كتاب الله عز وجل. { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } أي: أم يقول كفار قريش نحن جماعة ينصر بعضنا بعضاً على ما نريده.
قال الله { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } فصدق الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم وعده، وهزم المشركين يوم بدر وولوا هاربين.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزلت { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } جعلت أقول أي: جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر. وأكثر المفسرين على أنه يوم بدر هزموا فيه وولوا الدبر.
ثم قال { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ }.
(قالت عائشة رضي الله عنها لقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية أَلْعَب. { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } الآية أي: يوم القيامة موعدهم للعذاب بل ذلك الوقت أدهى وأمر من الهزيمة التي كانت عليهم في الدنيا وتوليتهم الدبر.
وأدهى من الداهية والداهية (الأمر العظيم) الذي لا ينفع فيه دواء. وَأَمّرُ من المَرَارة.
ثم قال تعالى { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أي: في حيرة وتجاوز عن الحق. { وَسُعُرٍ } أي: واحتراق من شدة العناد، والنصب في الباطل وقيل وسعر: وعناد.
{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } /.
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:
"قال: هم القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني" .
وقيل القول هنا محذوف. والمعنى يقال لهم: ذوقوا مس سقر. ومعنى يسحبون: أي: يجرون إلى النار. وفي قراءة ابن مسعود "إِلَى اُلنّاِر" على التفسير، "وسَقَى" إسم من أسماء أبواب جهنم أعاذنا الله منها.
وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: لوددت أن عندي رجلا من أهل القدر فوجأت رأسه، قال: ولم ذلك لأن الله عز وجل خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء وقلمه ذهب وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر الله فيه كل يوم ستين وثلاث مائة نظرة يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت ويقدر ويدبر، ويفعل ما يشاء.
وقوله { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } هو على المجاز، كما يقال وجدت مس الحمى، وذاق طعم الموت.
وقوله { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أي: بمقدار قدرناه وقضيناه وفي هذا بيان بالتوعد للقائلين بالقدر.
وقال ابن عباس: إني لأجد في القرآن قوما يسحبون في النار وعلى وجوههم، يقال لهم ذوقوا مس سقر لأنهم كانوا يكذبون بالقدر وإني لأراهم فما أدري أشيء [كان] قبلنا أم شيء فيما بقي.
وقال أبو هريرة خاصمت مشركو قريش النبي صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله تعالى { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } إلى قوله { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }.
(وقال أبو عبد الرحمان السلمي لما نزلت هذه الآية: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)، قال رجل يا رسول الله ففيم العمل، أفي شيء نستأنفه، أم في شيء قد فرغ منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعملوا (فكل مُيَسّرً لما خُلق له فسنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى). وقال محمد بن كعب القرطبي / لما تكلم الناس في القدر نظرت وإذا هو في هذه الآية أنزلت فيهم: { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } إلى { خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }. قال أبو محمد وقد أملانا الكلام على إعراب هذه الآية، والاستدلال منها على أن الله خلق كل شيء، وأنه لفظ عام لا خصوص فيه في غير هذا الكلام.
ثم قال { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [أي وما أمرنا للشيء إذا أمرنا به وأردنا تكوينه إلا قولة واحدة كن فيكون كلمح البصر] من السرعة لا يتأخر ولا مراجعة فيها.
ثم قال تعالى { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } هذا خطاب لمشركي قريش الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، أي: ولقد أهلكنا نظراءهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلها كما كذبتم رسولكم، فما يؤمنكم أن تهلكوا كما هلك من كان قبلكم، فهل من متعظ يتعظ فيزدجر عن كفره.
ثم قال { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } أي: وكل شيء فعله أشياعكم من الأمم الماضية فهو في الكتب كتبته عليهم الحفظة، وكذلك فعلت بكم.
وقيل الزبر هنا أم الكتاب، هو في أم الكتاب من قبل أن يخلقوا. { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أي: وكل صغير من الأعمال أو كبير مثبت في الكتاب مكتوب في أسطر.
ثم قال تعالى { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي: إن الذين اتقوا عقاب الله وآمنوا برسله، وبما جاءتهم به الرسل، في بساتين يوم القيامة.
والنهر ونَهر بمعنى أَنْهَار كما قال: "فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجِينا" وقيل نهر معناه وضياء وسعة، يقال أنهرته إذا وسعته. وقرأ الأعمش ونهر بالضم جعله جمع "نهار" كقَذَالِ وقُذَالَ.
وروي أنه ليس في الجنة ليل إنما هو نور كله، إنما يعرفون الليل بإغلاق الأبواب وإرخاء الستور، [والنهار بفتح الأبواب ورفع الستور]. ثم قال { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي: في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم. { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } أي: عند ذي ملك يقدر على ما يشاء لا إله إلا هو.