التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ
١٥٠
-الأعراف

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ }، الآية.
كان هارون أخا موسى (عليه السلام)، شقيقه، وإنما قال له: { ٱبْنَ أُمَّ }، على طريق الاستعطاف بالرحم.
فمن قرأ يـ { ٱبْنَ أُمَّ }، بالفتح، فالتقدير عند الكسائي، والفراء، وأبي عبيد: يا بن أماه، ثم حذف.
وهو عند البصريين يبنى كـ "خَمْسَةَ عَشَرَ".
ومن كسر "الميم"، فقال أبو حاتم، والأخفش: حذف الياء لدلالة الكسرة عليها، وهي لغة لبعض العرب، يقولون: يا غُلاَمَ غُلاَمِ أَقْبِل.
وحكى الأخفش: هذا غُلاَمِ يا هذا، بغير ياء في غُلاَمِي.
وأحسن منه عند أهل النظر: أن يكون بناء الاسمين اسماً واحداً، ثم أضافه بعد ذلك.
وشبه أبو عمرو الفتح بقولهم: هُوَ جَارِي بَيْتَ بَيْتَ، ولقيته كِفَّةَ كِفَّةَ يا فتى.
ولا يفعل ما فعل في الأم والعم في غيرهما، لا يقال: يَابْنَ أَبِ ولا يَابْنَ أختِ، ولا شبهه، ولا يجوز الفتح إلا في الأم والعم، وذلك لكثرة الاستعمال.
وقرأ مجاهد، ومالك بن دينار: "فَلاَ تَشْمَتْ بِيَ الأَعْدَاءُ"، بفتح "التاء" و "الميم"، ورفع: "الأعداء" بفعلهم، وهو مثل قوله:
{ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } [البقرة: 132]، أي: اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت. فالمعنى: فلا تشمت من أجلي الأعداء.
وحكى أبو عبيد عن حُمَيْد "تَشْمِتْ"، بفتح "التاء" وكسر "الميم". ولا وجه له؛ لأنه إنما يقال: "شَمِتَ" فإن سمع "شمت" بالفتح، فهي لغة من العرب، ولَمْ يَرُوْا ذلك.
ومعنى الآية: أن الله (تعالى) أعلم موسى (عليه السلام)، أنه قد فتن قومه، وأن / السامري قد أضلهم، فرجع موسى غضبان على قومه أسفاً عليهم.
و "الأسف": شدة الغضب.
وقال أبو الدرداء: "الأسف" منزلة وراء الغضب، أشد منه.
وقال السدي: "{ أَسِفاً }: حزيناً.
وكذلك قال الحسن، وابن عباس.
ومن هذا قولهم للعبد: "أَسيفٌ"؛ لأنه مقهور، وحزين مستعبد، وكذلك قيل للأجير: "أسِيفٌ": لأنه مستخدم، ومخزون على استخدام الناس له.
قوله: { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ }.
أي: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم، في عبادتكم العجل.
{ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ }.
أي: أسبقتم أمره؟ يقال: "عَجِلْتُ الرَّجُلَ": سبقته، و "أَعْجَلْتُهُ": استعجلته.
والفرق بين "العَجَلَة" و "السرعة"، أن العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة: عمله في أقل أوقاته.
{ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ }. أي: ألقاها غَضَباً على قومه.
ثم أخذ برأس أخيه يجره إليه غضباً. قاله ابن عباس.
[قال ابن عباس]: لما رجع موسى (عليه السلام)، إلى قومه، وصار قريباً منهم، سمع أصواتهم، فقال: إنني لأسمع أصوات قوم لاهين، فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقال
{ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [طه: 92-93].
قال قتادة أخذ الألواح، وقال: رب، إني أجد في الألواح أمة (خير أمة) أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد قال: إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلُهُمْ في صدورهم يقرأونها، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فُضُول الضَّلاَلَةِ، حتى يقاتلوا الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد قال: رب، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ثم يُؤْجَرُونَ عليها، [قال]: فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هَمَّ أحدهم بحسنة، ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عمَلِهَا كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مائة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك [أمة] أحمد! قال: رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بالسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، رب فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب [إني] أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفع لهم، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد (قال): فذكر لنا أن نبي الله (عليه السلام)، نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد قال: فأعطى الله موسى شيئين لم يعطها نبي، قال الله:
{ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [الأعراف: 144]، فرضي موسى (عليه السلام)، والثانية قوله: { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159]، فرضي موسى (عليه السلام) كل الرضى.
ويروى أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها، وبقي السبع، وكان فيما رفع: "تفصيل كل شيء". وبقي: "الهدى والرحمة" في السبع الباقي.
قال مقاتل: كانت لوحين.
فيكون هذا مما جُمِعَ في مَوْضِعِ التَّثْنِية، كما قال:
{ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [الأنبياء: 78]، يريد: داوود وسليمان. وله نظائر قد ذكرت.
وقال الربيع بن أنس: كانت التوراة سبعين وسق بعير، يقرأ الجزء منها في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، وعيسى، وعُزَير، ويوشع عليه السلام.
[و] قال ابن جبير: كانت الألواح من ياقوتة.
وقال مجاهد: كانت من زُمَرُّدٍ أخضر.
وقال أبو العالية: كانت من زَبَرْجَدٍ.
وقال ابن عباس: لما تكسرت رفعت إلا سدسها.
وقال ابن جبير: كانت الألواح من زُمُرّدُ، فلما ألقى موسى الألواح ذهب الفصيل، وبقي الهدى / والرحمة، وهو قوله:
{ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } [الأعراف: 154].
وقال الفراء: ذكر أنهما كانا لوحين.
وذكر النحاس أنه قيل: إنما أخذ برأس (أخيه) هارون على جهة المسارة لا غير، فكره هارون أن يتوهم من حضر أن الأمر على خلاف ذلك. فقال:
{ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [طه: 94].
وكان هارون أخاه لأُِمِّهِ.
وقيل: شقيقه.
{ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ }.
يعني: أصحاب العجل.