التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ
١
قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً
٢
نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً
٣
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً
٤
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
٥
إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً
٦
إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
٧
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً
٨
رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً
٩
وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
١٠
وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً
١١
-المزمل

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

- قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ } إلى قوله { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً }.
معناه: يا أيها الملتف بثيابه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأصله: المتزمل ثم أدغمت التاء في [الزاي].
قال قتادة: إنما قيل له: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ }؛ لأنه كان متزملاً في ثيابه، كأنه متأهب للصلاة؛ ودل على ذلك قوله: { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً }.
قال ابن عباس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَفْرقَ من جبريل فيتزمل بالثياب في أول ما جاءه حتى أنس به.
وقال عكرمة: زمل هذا الأمر، يعني: النبوة والرسالة.
قال: الزهري: التف النبي - صلى الله عليه وسلم - بثيابه من [فزع] أصابه أول ما رأى الملك فنودي بصفة فعله.
وقيل: كان يتزمل بالثياب، من شدة ما يلقى من قريش من تكذيبهم له [وتخويفهم] وأَذاَهُم.
قال [النخعي] كان متزملاً في قطيفة.
- وقوله: { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً / }.
أي: قم الليل كله للصلاة إلا قليلاً ثم أبدل من الليل بدل البعض من الكل فقال:
- { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً }.
أي: قم نصفه أو أقل من النصف.
- { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ... }.
[أي]: أو زد على النصف.
فهذا كله تخيير من الله لرسوله بين أن يفعل ما شاء من هذه الثلاث المنازل: يقوم النصف أو أقل أو أكثر.
وكان هذا فرضاً عليه وعلى المؤمنين فكانوا يقومون ثم خففه عنهم الآيتين في آخر السورة فَفَسَخَتَا هَذَا، وهو قول أكثر العلماء.
وقيل: إن ذلك كان ندباً ولم يكن فَرِْضاً.
وقيل: بل كان فرضاً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده.
قال ابن عباس: كان بين أولها وآخرها سنة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما نزل { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } كان الرجل يربط الحبل ويتعلق به فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل.
وقال ابن جبير: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل كما أمره (الله) عشر سنين ثم خفف عنهم بعد ذلك.
قال عكرمة: { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً... } الآية نسختها الآية التي في آخرها
{ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل: 20].
وقال قتادة: قاموا حولاً أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم، فأنزل الله تخفيفها في آخر السورة.
قال الحسن: لما نزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } "قام المسلمون حولاً، فمنهم من أطاقه ومنهم من لم يطقه، حتى نزلت الرخصة".
قال ابن زيد: أول ما افترض الله على رسوله والمؤمنين صلاة الليل وقرأ أول هذه السورة.
- قوله: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً... }.
أي: وبيّن القرآن إذا قرأته في صلاتك تبييناً (وترسل فيه ترسلاً)، قاله قتادة.
قال الحسن: معناه (اقرأه) قراءة بينة).
وقال مجاهد: "اقرأه بعضه على إثر بعض على تؤدة".
والرتل في اللغة: الضعف واللين، فالمعنى: لين القراءة، ولا تستعجل بانكماش.
والرتل في [الأسنان] أن يكون بينها الفرج ولا يركب بعضها بعضاً، يقال: "ثغر ورتل" إذا كان كذلك.
- ثم قال: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }.
أي: ثقيلاً العمل به وبحدود(ه) فرائضه أي: صعباً.
قال الحسن: إن الرجل ليعد السورة، ولكن العمل بها ثقيل.
وقال قتادة: "ثقيل والله فرائض القرآن وحدوده".
وقيل: معناه: إن القوْل بعيْنِه ثقيل.
وروى عروة
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [كان] إذا أُوحِيَ إليه وهو على ناقته وَضَعَتْ جِرَانَهَا - يعني صدرها - فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه" .
وقال ابن زيد: "هو - والله - ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة".
- ثم قال: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً... }.
قال ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين، ناشئة الليل: ما بين المغرب والعشاء.
وقال الحسن والحكم: ناشئة الليل من العشاء الآخرة إلى الصبح، وقال ابن عباس و (ابن) الزبير: الليل كله ناشئة. وهو قول ابن جبير ومجاهد. وأصله من نشأ إذا ابتدأ. فعلى هذا بناه من قال إنه من المغرب إلى العشاء الآخرة.
وقد قال الكسائي: ناشئة الليل أوله.
- قوله: { أَشَدُّ وَطْأً... }.
معناه: أثبت قياماً.
قال المفسرون: هي أثبت في الخير وأحفظ للقلب، لأن النهار يضطرب فيه الناس لمعاشهم، والليل أخلى وأثبته في القيام.
وقيل: معناه: إن صلاة ناشئة الليل هي أشد (وطئاً) على المصلى من صلاة النهار لأن الليل للنوم، فهي وإن كانت أصعب [فهي] أقوم قيلاً [أي]: أصوب قولا لأن القارئ لا يشغله عن قراءته في الليل شيء ويشغله في النهار ما يرى من التصرف وما [يعرض] له من الأمور.
وقيل: معنى { أَشَدُّ وَطْأً }: أشد أمراً وأشد [مكابدة] واحتمالاً ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"اللهم اشدد وطأتك على مضر" ، وَطِئْتَ وَطْأً، مثل شَرِبت شُرْبًا ولَقِمْتُ لَقْمًا.
فأما من قرأ "وِطَاءَ" فإنه جعله مصدر مواطأة ووطاء.
ومعناه: أشد مواطأة للسمع والقلب، أي: يواطئ فيه السمع القلب فلا يشتعل القلب بشيء عن فهم ما يقرأ وسماعه. وقيل: معناه: أشد علاجاً.
قال ابن عباس: { أَشَدُّ وَطْأً } أي: أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليهم من القيام. قال: وكانت صلاتهم أول الليل.
وقال الضحاك: معناه: قراءة القرآن بالليل أثبت منها في النهار.
وقال مجاهد: { أَشَدُّ وَطْأً } أي يتواطأ قلبك وسمعك وبصرك بعضه بعضا.
- وقوله: { وَأَقْوَمُ قِيلاً }.
أي: وأصوب قراءة.
قال / مجاهد: وأثبت قراءة.
وقال ابن عباس: معناه: يقول: أدنى أن يفقهوا في القول.
وقال قتادة: "[أحفظ] للقراءة".
وقال ابن زيد: "وقوم قراءة لفراغه من الدنيا".
- ثم قال: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً }.
أي: فراغاً طويلاً، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال ابن زيد: (سبحاً لحوائجك) فَأَفْرِغْ أذنك بالليل.
وقرأ يحيى بن يعمر: "سَبْخاً" بالخاء المعجمة، ومعناه راحة [نوماً].
- ثم قال: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }.
أي: واذكر ربك يا محمد فادعه وانقطع إليه انقطاعاً لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره. يقال: بتلت هذا الأمر قطعته.
ومنه قيل لمريم البتول لانقطاعها إلى الله جل ذكره.
قال ابن عباس: { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي: أُخْلِص له إخلاصاً" وهو قول مجاهد والضحاك.
وقال الحسن: أَبْتِلْ إليه نفسك واجتهد.
وقال قتادة: "أخلص له العبادة والدعوة".
وقال ابن زيد: تفرغ لعبادته، [تَعَبّدْ] بالتبتل] إلى الله.
- ثم قال: { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ }.
أي: هو رب ذلك لا معبود تصلح له العبادة غيره.
- { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }.
أي: فوض (إليه أسبابك) والمعنى: اتخذه كافياً لك.
وقيل معناه: اتخده كفيلاً لك بأمورك كلها.
وقيل: المعنى: اتخده رباً.
فالوكيل يكون بمعنى الكافي وبمعنى الكافل وبمعنى الرب.
- ثم قال: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ... }.
أي: واصبر على ما يقول هؤلاء المشركون من قومك واحتمل أذاهم.
- { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً }.
(أي: اهجرهم في الله هجراً جميلاً).
قال قتادة: كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم أُمِرَ بقتالهم (وقتلهم) فنَسخت آيةُ القتال ما كان قبلها من الترك.
ثم قال: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ... }.
هذا وعيد وتَهَدُّدٌ من الله جل ذكره للمشركين أي: ودعني يا محمد والمكذبين بآياتي أصحاب التنعم في الدنيا.
- { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً }.
أي: أمهلهم بالعذاب حتى يبلغ الكتاب أجله.
وكان بين نزول هذه الآية وَبَدْرٍ يسير [قالته] عائشة رضي الله عنها.