التفاسير

< >
عرض

وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً
١٤
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ
١٥
قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
١٦
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
١٧
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً
١٨
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
١٩
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
٢٠
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
٢١
إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً
٢٢
-الإنسان

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

- [قوله تعالى]: { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } إلى قوله: { مَّشْكُوراً }.
أي: وقربت منهم ظلالها. وانتصب { دَانِيَةً } على العطف على { جَنَّةً }.
والتقدير: وجزاهم جنة دانية.
ويجوز أن يكون [حالاً عطفاً] على { مُّتَّكِئِينَ } أو على { (لاَ) يَرَوْنَ }، ويجوز أن يكون صفة للجنة.
ويجوز أن يكون على المدح مثل:
{ [وَٱلْمُقِيمِي] ٱلصَّلاَةِ } [الحج: 35] فهو - [و] إن كان نكرة - فإنه يشبه المعرفة، إذ قال طال الكلام به.
وقرأ ابن مسعود: { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ }، حَمَلَهُ على تذكير الجمع وهو ظلالها.
وفي قراءة أُبَيّ (ودانٍ)، على أنه [في] موضع رفع مثل: قَاضٍ المرفوع. حمله [على] أنه خبر { ظِلاَلُهَا } مقدم.
- ثم قال تعالى: { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }.
قال مجاهد: معناه: إن قام ارتفعت بقدرة (الله)، (فإن) قعد تذللت حتى ينالها، وإن [اضطجع] تذللت حتى ينالها.
وقال قتادة: معناه "لا يَرُدُّ أيديهم عنها [بعد] ولا شوك".
قال سفيان: { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا } قال: "يتناوله كيف شاء، جالساً ومتكئاً". قال مجاهد: أرض الجنة وَرِقً، وتُرْبُهَا مسك، وأصول شجرها ذهب، ووَرَق أفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والثمر تحته.
- ثم قال تعالى: { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }.
"ويقال: "المذلل الذي قد ذللـه الماء أي أرواه".
"ويقال: المذلل الذي [يُفَيِّئُهُ] [أدنى] ريح".
"ويقال: المذلل: المسوى". وأهل الحجاز يقولون: [ذلل] نَخْلَكَ.
أي: سوه. ويقال: المُذَلَّلُ: القريب المُتَنَاوَل. من قولهم: [دابة] ذليلُ "أي: قصيرة. هذه أقول أهل اللغة.
- ثم قال تعالى: { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ }.
أي: ويطاف على هؤلاء الأبرار في الجنة بآنية في بياض الفضة وصفاء القوارير. قال مجاهد: فيها رقة القوارير في بياض الفضة. وهو قول قتادة.
- وقوله: { وَأَكْوابٍ }.
أي: "ويطاف عليهم مع الأواني بجرار ضخام فيها الشراب. وكل جرة ضخمة لا عروة لها [فهي] كوب".
وقال مجاهد: الكوب: [الكوز] الذي لا عروة له. وهو قول أكثر المفسرين. وقال قتادة: هو القِدْحُ.
- وقوله: { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ }.
[أي]: كانت هذه الأواني والأكواب قوارير فحولها الله فضة. وقيل: إن قوله: { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ } يدل على أن أرض الجنة من فضة. لأن المعلوم في الدنيا المتعارف أن كل آنية (تتخذ) فإنما تتخذ من تربة الأرض التي [هي] فيها، فدل على أن أرض الجنة من فضة بقوله: { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ }.
قال أبو صالح: كان تراب هذه الأواني فضة.
- وقوله: { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً }.
أي: قدروا تلك الأواني على قدر [رِيِّهم]، لا تزيد ولا تنقص في ذلك، يعني: [قدرها] الملائكة [الطائفون] بالآنية والأكواب. قال الحسن: "قُدِّرت [لِريِّ] القوم. وهو قول قتادة وابن زيد ومجاهد.
وعن ابن عباس أن معناه (وقدروها) على قدر الكف. والمعنى: [قدرها] لهم السقاة الذين يطوفون عليهم بها، فلذلك نسب إليهم. وقيل: معناه: وجدوها كذا، فنسب الفعل إليهم لمناولتهم إياها لهم.
وقرأ الشعبي وعبيد بن عمير وابن أبزى: "قُدِّرُوهَا تَقْدِيراً" - بضم القاف - أي: قدرت (عليهم) لا تزيد ولا تنقص.
- وقوله تعالى: { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً }.
أي: ويسقى هؤلاء الأبرار في الجنة شراب (كأس).
والكأس: كل إناء فيه شراب. فإذا كان فارغاً من الخمر لم يُقَلْ له كأس، ويقال له قدح. كذلك لا يقال للخِوان: مائدة حتى يكون [عليه] الطعام.
- قوله: { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً }.
أي: كان مزاج شراب الكأس زنجبيلاً. قال قتادة: "تمزج بالزنجبيل".
وقال (قتادة في رواية ابن جبير عنه): الزنجبيل: اسم للعين يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة. والعرب تضرب المثل بالخمر إذا مزجته بالزنجبيل، وكانوا يستطيبون ذلك. فخوطبوا على ما يعرفون. هذا يدل على قول قتادة الأول.
- وقوله: { عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً }.
{ عَيْناً } منتصبة على ما انتصب { عَيْناً } (الأول). (قال) قتادة: معنى { سَلْسَبِيلاً }. "سلسة يصرفونها حيث شاءوا".
وقال مجاهد: { سَلْسَبِيلاً } أي "[سلسة] الجرية".
وقيل: هو اسم للعين، ويلزم من قال هذا ألا يصرفه.
قال النحاس: هي فعلليل من [السلاسة].
وهذا غلط، لأنه كان يجب أن يقال: [سلسليل]، ولا يكون فيه [باء].
[و] حكى سيبويه أن نظيره قفشليل.
- ثم قال تعالى: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ }.
"أي: لا يموتون". وقيل: معناه مسورون. وقيل: مقرطون، وذلك بلغة حِمْيَر. يعني بذلك أنهم شباب لا يتغيرون عن ذلك السِن. تقول العرب للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره إنه لَمُخْلِدٌ، وكذلك إذا كَبِرَ [وثبتت] أضراسه، يراد به أنه [لثابت] الحال.
- ثم قال تعالى: { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ / لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً }.
أي: إذا رأيت - يا محمد - هؤلاء الولدان، ظننتهم في حسنهم ونقاء بياض وجوههم [وكثرتهم] لؤلؤاً منثوراً ومجتمعاً.
قال قتادة: { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } يعني من [كثرتهم] وحسنهم.
قال [ابن عمرو]: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام، وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه.
قال سفيان: { حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } قال: "في كثرة اللؤلؤ وفي بياض اللؤلؤ".
وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَلاَ يَبُولُونَ وَلاَ [يَتَغَوَّطُونَ] وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، [يَصِيرُ] طَعَامُهُم وشَرَابُهُم [جُشَاءً]، وَرَشْحَ مِسِكٍ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ والحَمْدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفْسَ" .
- ثم قال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً }.
أي: وإذا رأيت - يا محمد - ما ثم رأيت نعيماً.
وأكثر البصريين على أن { ثَمَّ } نصبه على الظرف، ولم يُعَدَّ { رَأَيْتَ }، كما تقول: ظننت في الدار" فلا تعدي "ظننت".
وقال الأخفش: { ثَمَّ } مفعول بها، و { رَأَيْتَ } بمعنى نظرت، و { ثَمَّ } إشارة إلى الجنة.
- وقوله: { وَمُلْكاً كَبِيراً }.
أي: (و) رأيت مع النعيم ملكاً عظيماً. روي: أَنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ في مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ.
وقيل: الملك الكبير هنا عني به تسليم الملائكة عليهم واستئذانهم عليهم. قاله مجاهد وسفيان.
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ عَامٍ، يَنْظُرُ أَزْوَاجَهِ وَسُرُرَهُ وَخَدَمَهُ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ" .
قال أحمد بن ثعلبة عن أبيه أنه (قال) في قوله تعالى: { وَمُلْكاً كَبِيراً } هو أ[ن] (رسول) رب العزة يأتيه بالتُّكف واللُطْفِ فلا يصل إليه إلا بحجاب، ومن داره إلى دار السلام باب يدخل منه على ربه إذا شاء بلا إذن، فذلك (الملك) الكبير.
وقال الفزاري: لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب، باب يدخل عليه منه زواره من الملائكة، وباب تدخل عليه (منه) أزواجه الحور، وباب مقفل بينه وبين أهل النار يفتحه إذا شاء ينظر إليهم فتعظم النعمة عليه، وباب بينه وبين دار السلام يدخل على ربه إذا شاء.
قال كعب: من الجنة إلى النار كِوَاءٌ يتطلع منها رجال من (أهل) الجنة إلى رجال من أهل النار ينظرون إلى عذابهم.
ثم قرأ كعب:
{ فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 55] أي: في وسطها.
- ثم قال تعالى: { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ [خُضْرٌ] وَإِسْتَبْرَقٌ }.
من أسكن الياء في { عَالِيَهُمْ } جعله مرفوعاً بالابتداء، وما بعده خَبَرُه، وشَاهِدُهُ أن في قراءة ابن مسعود "عَالِيَتُهُمْ ثياب".
ومن فتح الياء جعله ظرفاً خبرَ (ابتداءٍ) مُقَدَّمٍ، وهو "ثِيَابٌ". وشَاهِدُهُ أن [مجاهداً] قرأ "عَلَيْهِمْ ثِيَابُ".
والسندس: رقيق الديباج، والاستبرق: غليظه.
فالمعنى: أن الثياب الخضر تعلو ثياب أهل الجنة. هذا على قراءة من رفع الخضر وخفض السندس.
وقيل: معناه أن الثياب الخضر فوق حجالهم لا عليهم.
قال الطبري: { عَالِيَهُمْ } أي: "فوقهم، يعني: فوق هؤلاء الأبرار ثياب سندس". هذا كله على قراءة من فتح الياء.
ومن أسكنها فمعناه: ظاهرهم ثياب سندس.
وقرأ ابن محيصن: "وَاسْتَبْرَقَ" بوصل الألف وفتح القاف. وهو لحن عند النحوين، لأنه لا يمتنع مثل هذا من الصرف في النكرة. ولأنه لا توصل ألف مثل هذا (في التسمية به)، لو سميت بِـ "اسْتَكْبَرَ" لقطعت الألف، لانتقاله من الأفعال إلى الأسماء.
هذا قول الخليل وسيبويه.
- ثم قال تعالى: { وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ }.
أي: وحلاهم ربهم أساور من فضة، وهو جمع أسورة.
- ثم قال: { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }.
أي: شراباً يصير رشْحاً في أبدانهم (كرشح المسك)، لا يصير بولاً نجساً كشراب الدنيا. قال النخعي: "إن الرجل من أهل الجنة (يُقْسَمُ له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا) وأكلهم ونعمتهم، فإذا أكل سقي شراباً طهوراً فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيب من المسك الأذفر، ثم تعود شهوته".
- ثم قال تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً }.
أي: يقال لهم: إن هذا النعيم الذي ذكر في الجنة كان لكم جزاء على أعمالكم في الدنيا وطاعتكم. وإن عملكم متقبلاً. قال قتادة: "غفر لهم الذنوب، وشكر لهم الحسن". وقال مرة أخرى: "لقد شكر سعياً قليلاً".