التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٣
ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٤
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ
١٥
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
-الأنفال

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، إلى قوله: { سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
والمعنى: هذا الفعل الذي فُعل بهم من ضرب الأعناق وغير ذلك، { بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، أي: خالفوه، كأنهم صاروا فِي شِقٍّ آخر بمخالفتهم له.
{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }.
أي: يخالفه.
أَجْمَعَ القراء على الإظهار، إذ هو في الخَطِّ بقافين.
والإظهَارُ لغة أهل الحجاز، وغيرهم يُدْغِمُ، وعليه أُجْمِعَ في: "الحشر".
ويحسن "الرَّوْمُ"، في الوقف في: "الحشر" /؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله الثاني لازم في الوقت، وهو "القاف" الأولى المُدْغَمة في الثانية، ولا يحسن "الرّوْمُ" في الوقوف [في الأفعال؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله "القاف" الثانية غير لازم في الوقف] وهو "اللام" من اسم الله، جل ذكره، فقس عليه ما كان مثله.
وقوله: { ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ }.
{ وَأَنَّ }: في موضع رفع عطف على: { ذٰلِكَ }.
وقيل المعنى: وذلك وأن للكافرين، و{ ذٰلِكُمْ }: في موضع رفع على معنى: الأمر ذلكم، أو: ذلكم الأمر.
وقيل: { أَنَّ } في موضع نصب على معنى: واعلموا أن للكافرين، كما قال.

يَا لَيْتَ زَوْجَكَ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً

أي: وحاملاً رُمحاً.
ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: وأن للكافرين.
ومعنى الكلام: هذا الذي عُجَّلَ لكم من ضرب الأعناق وضرب كلِّ بنان في الدنيا ذوقوه، أيها الكافرون، واعلموا أن لكم في الآخرة عذاب النار.
ثم قال تعالى: { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ } الآية.
والمعنى: إن الله أمر المؤمنين ألا يَفِرُّوا من الكفار إذا تدانى بعضهم من بعض عند القتال.
وقيل: المعنى: إذا وَاقفَتْمُوهُم فلا تفروا منهم، ولكن أثبتوا فإنّ الله معكم.
ثم توعد من يتولى أنه يرجع بغضب من الله، وأنَّ مأواهم جهنم، وأرخص لهم أن يتحرف الرجل لتمكنه عودة إلى الظفر، لا ليولي هارباً، وأرخص أن ينحاز الرجل إلى فئة من المؤمنين ليكون معهم.
يقال: تحوَّزت وتحيّزتُ.
قال الضحاك: "المُتَحَرِّفُ": المتقدم من أصحابه ليظفر بعودة للعدو، و "المُتَحَيَزُ": الذي يرجع إلى أميره وأصحابه.
قال عطاء: هذا مَنْسُوخٌ، نسخه:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } [الأنفال: 65] الآية، فأُمِروا أن يَفِرُّوا ممن هو أكثر من مِثْلَيْهم.
وقال الحسن: الآية مخصوصة في أهل بدر خاصة، وليس الفرار من الكبائر.
وقال أبو سعيد الخدري: نَزَلَتْ في أهل بدر، يعني: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ }.
ودليل أنها مخصوصة يوم بدر قوله: { يَوْمَئِذٍ }، فعلق الحكم بيوم معلوم.
وقال ابن عباس: الآية محكمة، وحكمها باق إلى اليوم، والفرار من الكبائر.
ومعنى: { بَآءَ بِغَضَبٍ }.
أي: رجع به.
وقوله: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ }.
أي: لم تقتلوا أيها المسلمون المشركين.
{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ }.
أضاف ذلك إلى نفسه، تعالى، إذ كان هو المسبِّب قتلهم، والمعين عليه، وعن أمره كان، وبنصره تَمَّ.
رُوِيَ أن جبريل عليه السلام، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، عند الزحف: خُذْ قبضة من تراب فَارْمِهِم بها، ففعل، فلم يبق أحد من المشركين إلا أصابت عينه وأنفه وفمه، فولَّوا مُدْبِرِين.
فلما أظْفَرَ الله المؤمنين بالمشركين، جعل كل واحد يقول: فعلت كذا، وصنعت كذا، فأنزل الله، عز وجل: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }.
وهذا يدلُّ على خلاف قول من يقول: إنَّ العبد يفعل حقيقة.
ثم قال: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ }، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } أي: الله المسبِّب للرمية، وهذا حين حَصَبَ النبي صلى الله عليه وسلم، الكفار فهزمهم الله.
قال عكرمة: ما وقع منها شيء إلا عَيْنِ رجل.
وقيل:
"إن النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، لما دنوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وقال: شاهت الوجوه! فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم من رَمْيَةٍ رسول الله / صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } الآية" .
قال قتادة: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم، يوم بدر ثلاثة أحجار فرمى بها وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، رمى أُبَيَّ بن خلف الجمحي يوم بدر بحربة في يده فكسر له ضلعاً فمات منه، وكان النبي، عليه السلام، قد أوْعَدَهُ أنه يقتله.
وَيُرْوَى
"أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان جالساً يوم بدر في عريش، وأبو بكر عن يمينه، والنبي صلى الله عليه وسلم، يدعو ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد! اللهم النصر الذي وعدتني، فألح النبي صلى الله عليه وسلم، في الدعاء، فقال له أبو بكر، رضي الله عنه: خفض يا رسول الله، دعاءك، فإنَّ الله متممٌّ لك ما وعدك، فَخَفَقَ رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، من نعسة نعسها، ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر، فقال: أبشر بنصر الله، رأيت في منامي بقلبي جبريل عليه السلام، يَقْدُمُ الخيل على ثنية النقع. فلما التقى الجمعان خرج النبي صلى الله عليه وسلم من العريش، فأخذ حَصْباً من الأرض فرمى بها في وجوههم، ثم قال: شاهت الوجوه ثم لا ينصرون، لا ينبغي لهم أن يظهروا فرمى مقابل وجوههم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم ثلاث مرات فلم تقع تلك الحصباء على أحد إلا قتل وانهزم، وصار في جسده خضرة" .
قال أبو عبيدة معناه: ما ظفرت ولا أَصَبْتَ، ولكن الله أظفرك ونصرك. يقال: رمى الله لك، [أي]: نصرك.
وحُكِى أن بعض العلماء قال في معناها: وما رميت قلوب المشركين إذ رميت وجوههم بالرمل والتراب، ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع فهزمهم عنك برميته لا برميتك.
وقوله: { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً }.
يريد به من استشهد ذلك اليوم، وكان قد استشهد من المؤمنين ذلك اليوم أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وهم:
عُبَيْدَة بن الحارث بن عبد المطلب، توفي بـ: "الصَّفْرَاءِ"، من ضَرْبَةٍ في سَاقِهِ.
وعُمَيْرُ بن مالك بن وُهَيْب.
وأبو سعيد بن مالك.
وذو الشِّمَالَيْنِ: عمير بن عمرو بن نَضْلة.
وغَافِلُ بن البُكَيْر، سماه النبي: عاقل بن بكير وهو حليف لبني عَدِيٍّ.
ومَهْجَع، مولى عمر بن الخطاب، (رضي الله عنه)، وهو أول من قتل يوم بدر.
وصفوان بن بَيْضاء، من بني الحارث بن فِهر.
وثمانية من الأنصار من الأوس، وهم.
سَعْد بن خيثمَةَ بن الحارث.
وَمُبَشِّر بن عبد المنذر، وهو أخو أبي لُبابة، وهو نقيب.
وعُمَير بن الحُمام.
وابنا عفراء: معاذ وعمرو.
ورَافِعُ بن المُعَلّى.
ويزيد بن الحارث ابن فُسْحُم.
[وحارثة] بن عدي بن سُرَاقَة.
"وكان حارثة صغير السن بعثته أمه مع عمر بن الخطاب يخدمه، فكان يعجن، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله ليضحك إلى عبده يخرج [متفضلاً في ثوبه شاهراً سيفه فيقاتل حتى يقتل، فترك العجين وخرج] إلى القتال فاستشهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم، المدينة، أتت أمه وأخته إلى عمر فسألتاه عن حارثة، فقال: استشهد، ثم ذهبتا إلى أبي بكر فسألتاه عن حارثة، فقال لأمه: ابنك في الجنة، ثم ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله ابني، فقال: ابنك في الرفيق / الأعلى، فحمدت الله، وقالت: طوبى لمن كان منزله في الرفيق الأعلى، فكان الناس يعدون، وهي تهنأ" .
وأم حارثة هذه هي بنت النضر، عمة أنس بن مالك بن النضر.
وروى ابن وهب: أنّ عبد الرحمن بن عوف؛ قال: بينا أنا يوم بدر في الصَّفِّ إذا غلام عن يمين وآخر عن يساري، يغمزني أحدهما سراً من الآخر، فقال: يَا عَمَّ، فقلت: ما تشاء، قال: أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا؛ إنه بلغني أَنَّهُ يَسُبُّ رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، قال عبد الرحمن بن عوف: (ثم غمزني) الآخر سراً، فقال: يا عم، أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا. قلت: بأبي أنتما وأمي، وأشرت لهما إليه، فبلغني أنه قتلهما، وهما: ابنا عفراء، وقطعا يده ورجله قبل أن يقتلهما.
قال ابن مسعود: فجئت أبا جهل، وهو فرعون هذه الأمة فوجدته مقطوع اليد والرجل، فقلت: أخزاك الله، فقال: رُوَيْع غنم ادْنُهْ فإن الفحل يحمي إبله وهو معقول. قال ابن مسعود: وكان معه سيف جيّد، ومعي سيف رديء، فأدرت به حتى أخذت سيفه، ثم ضربته به حتى مات، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بقتلي لأبي جهل فقال: آلله، قلت آلله، فقال: آلله، قلت: آلله، مرتين أو ثلاثاً.
وقتل يومئذ من المشركين أكثر من سبعين، وأسر سبعون.
وكان الأسود بن عبد الأسد المخزومي حلف قبل القتال بآلهته ليشربن من الحوض الذي صنع محمد، وليهدمنّ منه، فلما دنا من الحوض لقيه حمزة بن عبد المطلب. فضرب رجله فقطعها، فأقبل يحبو حتى وقع في الحوض، وهدم منه، وأتبعه حمزة فقتله فكان أول من قتل من المشركين، فاحتمى له المشركون، فبرز منهم ثلاثة: عُتْبة بن ربيعة، وشيبة [بن ربيعة]، والوليد بن عتبة [بن ربيعة]، ونادوا بالمبارزة فقام إليهم نفر من الأنصار. فاستحيى النبي صلى الله عليه وسلم وأحبَّ أن يَبْرَزَ إليهم من بني عمه، فناداهم: أن ارجعوا إلى مصافكم. وليقم إليهم بنو عمهم، فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب. وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فبرز حمزة: لعتبة، وعبيدة: لشيبة، وعلي: للوليد فقتل حمزة: عتبة، وقتل علي: الوليد، وقتل عبيدة: شيبة، بعد أن ضرب شيبةُ رِجْل عبيدة فقطعها، فَحُمِل حتى توفي بـ: "الصَّفْراء".
فكان قتل هؤلاء النفر أن يلتقي الجمعان.
وقيل معنى: { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
أي: وليُنعم عليهم نعمة حسن بالظفر والغنيمة والأجر.
{ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
أي: { سَمِيعٌ } لدعاء نبيكم، { عَلِيمٌ } بمصالحكم.
وقيل معناه: وليختبر الله المؤمنين اختباراً حسناً.