التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ
١
وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ
٢
وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ
٣
وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ
٤
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
٥
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ
٦
ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
٧
فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
٨
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ
٩
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
١٠
كِرَاماً كَاتِبِينَ
١١
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
١٢
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
١٣
وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
١٤
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ
١٥
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ
١٦
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٧
ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٨
يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
١٩
-الانفطار

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

- قوله تعالى: { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } إلى آخرها.
[إذا السماء انفطرت، بمنزلة قوله:
{ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [الإنشقاق: 1]].
- ثم قال تعالى: { وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ }.
أي: تساقطت. وقد تقدم ذكر هذا.
- ثم قال { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ }.
أي: فجر الله بعضها في بعض.
قال قتادة: "فَجّرَ عَذْبَهَا في مالحها، ومالحها في عذبها".
- ثم قال تعالى: { وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ }.
أي: [أثيرت] فاستخرج من فيها من الموتى أحياء.
يقال: بعثر فلان حوض فلان [وبحْثره]: إذا جعل أسفله أعلاه.
قال ابن عباس: { بُعْثِرَتْ }: "بُحِثَتْ".
وقال الفراء: بُعْثِرَتْ فألْقَتْ ما فيها من الكنوز والموتى. ولا معنى للكنوز في هذا؛ لأنه يوم القيامة، ولا كنز في القبور.
- ثم قال تعالى: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ }.
هذا جواب { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } وما بعده، أي: علمت كل نفس ما قدمت لذلك اليوم وما أخرت من عمل صال أو سيء.
وقيل: معنى (أخرت)، أي: ما سنت من عمل فيعمل به بعده. (قاله القرظي).
وقيل: معناه: ما قدمت من العمل المفروض فعملت به، وما تركت منه. وهو قول [ابن] عباس وعكرمة وقتادة وابن زيد. أي: [ما] عملت مما فرض عليها، وما تركت فلم تعمل (به).
- ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ }.
أي: يا أيها الإنسان الكافر بربه، أي شيء غرك بربك الكريم حتى كفرت به وجحدت نعمه؟!
قال الطبري: غَرَّ الناس عدوُّهم المسلط عليهم. وقاله قتادة.
- وقوله: { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ }.
أي: اخترع خلقك [بعد] إن لم تكن شيئاً فسوى خلقك. { فَعَدَلَكَ } أي: فقومك، فجعل خلقك معتدلاً، (لا) تزيد رجل (على رجل)، ولا يد على يد. ودل على هذا قوله:
{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4]. ومن خفف { فَعَدَلَكَ } فمعناه: صرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنٌ وإما قبيحٌ، وإما طويل وإما قصير.
وقوله: { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }.
يدل على هذا المعنى. فقراءة (التشديد أولى [ليفيد] الكلام فائدتين مجددتين، لأن معنى التخفيف هو ما أفاد).
قوله: { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }. و { فِيۤ } متعلقة بِ { رَكَّبَكَ }، ولا يحسن أن تتعلق بِـ (عدلك) لأنك إنما تقول: عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلته في كذا.
وقد غلط الفراء فمنع قراءة التخفيف واستبعدها لإتيان { فِيۤ } بعد (عدلك)، فظن أن { فِيۤ } متعلقة بـِ (عدلك)، وليست كما ظن.
وقد قيل: إن القراءة بالتشديد هي من هذا المعنى على التكثير، أي: صرفك مرة بعد مرة إلى أي صورة شاء.
وقيل: معنى التخفيف: (أمالك إلى) ما شاء من حسن وقبح وصحة وسقم.
وقال مجاهد: { (فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ) مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } معناه: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم شاء خلقك.
وقال أبو صالح: معناه: إن شاء في صورة كلب أو خنزير أو حمار. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، أما قرأت في { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }؟!" .
والتقدير في الكلام: في أي صورة ما شاء أن يركبك { رَكَّبَكَ }.
وفي حديث آخر أنه قال:
"إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَزَّ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ النَّسْمَةَ فَجَامَعَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ، طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عَرْقٍ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْضَرَ لَهُ آباءَه مِنْ لُدُنِ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرَهُ فِي صُورَةِ وَاحِدٍ [مِنْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ]: { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }" .
- ثم قال: { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ }.
أي: ليس الأمر - أيها الكافرون - على ما تقولون من أنكم على الحق في عبادتكم غيرَ الله، لكنكم تكذبون بالجزاء والبعث والجنة والنار. ودل على ذلك قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } (أي: ما غرك في عبادتك غير ربك الكريم) الذي خلقك فسواك فعدلك.
وقيل: { كَلاَّ } / بمعنى "حَقَّاً هَذَا"، أو بمعنى "أَلاَ". ولذلك، لم ير أبو حاتم الوقف (عليها)، وأجازه نصير.
وقيل: المعنى ليس كما غررت به، بل تكذب بالدين.
وقال مجاهد: { بِٱلدِّينِ }: "بالحساب".
وقال قتادة" { بِٱلدِّينِ }: "يوم شدة، يوم يدين الله (العباد) بأعمالهم".
- ثم قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }.
أي: وإن عليكم أيها الناس رقباء حافظين لأعمالكم حتى تدانوا بها يوم القيامة.
ثم وصف الحافظين فقال:
- { كِرَاماً كَاتِبِينَ }.
أي: كراماً على الله يكتبون أعمالكم.
قال مجاهد: يُوكِل بكل إنسان ملكين، ملكاً عن يمينه يكتب الخير، وملكاً عن شماله يكتب الشر.
- وقوله: { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }.
أي: يعلم هؤلاء الحفظة ما تفعلون من خير وشر [فيحصونه] عليكم.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: إن الملك يأتي أحدكم كل غدوة بصحيفة بيضاء، فإذا صلى الغدوة [فليمل] فيها خيراً، فإذا طلعت الشمس فليقم لحاجته، فإذا صلى العصر فليمل فيها خيراً. فإنه إذا أملى في أول [صحيفته] وآخرها خيراً (كان) عسى أن يكفر ما بينهما.
- ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }.
أي: إن الذين بروا بأداء فرائض الله واجتناب محارمه لفي نعيم الجنان يوم القيامة.
وقيل: إنما سموا أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء.
- ثم (قال) تعالى: { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ (ٱلدِّينِ) }.
أتى بلفظ التأنيث في { يَصْلَوْنَهَا } حملاً على تأنيث النار، أي: يَصْلَى الفجار الجحيم يوماً يدان فيه العباد (بأعمالهم.
وقال ابن عباس: "{ يَوْمَ ٱلدِّينِ }) من أسماء يوم القيامة، [عظمه] الله وحذره عباده".
- ثم قال تعالى: { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ }.
أي: وما هؤلاء الفجار عن الجحيم بخارجين أبداً [فغائبين] عنها، [لكنهم] مخلدون فيها أبداً.
- ثم قال تعالى: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ (مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ) }.
أي: وما أشعرك، يا محمد، أي شيء يوم الدين!، ثم كرره معظماً له محذراً (منه) عباده.
وقيل: إن هذا ليس بتكرير. ومعناه: وما أدراك، يا محمد، ما في يوم الدين من العذاب للفجار!، وما أدراك ما في يوم الدين من النعيم للأبرار!.
ثم فسر بعض شأن ذلك اليوم فقال:
- { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً... }.
أي: ذلك اليوم يوم لا تملك فيه نفس لنفس نفعاً ولا ضراً. ومن رفع { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } جعله بدلاً مما قبله، أو على إضمار مبتدأ، أي: [هو يوم لا تملك].
واختار الفراء والكسائي [الرفع فيه] لأنه مضاف إلى مستقبل، ولو كان مضافاً إلى ماض لآثروا الفتح، فهو عندهم في الاختيار مُعَرَّبٌ إذا أضيف إلى معرب، ومبني إذا أضيف إلى مبني.
ويجوز في المستقبل من البناء على الفتح مثل ما جاز في الماضي. ومن فتح { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } فعلى الظرف، أي: [الدين] في يوم تملك.
ولا يجوز عند الخليل وسيبويه: أن يكون مبنياً وهو [مضاف] إلى معربٍ، إنما يجوز ذلك إذا أضيف إلى ماضٍ.
وأجاز الفراء أن يكون مبنياً وإن كان مضافاً إلى معرب، وأن يكون منصوباً معربا، وأن يكون - إذا كان مبنياً - في موضع نصب على الظرف، وفي موضع رفع على إضمار مبتدأ.
- ثم قال تعالى: { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }.
أي: والأمر كله - يوم الدين - لله (أي)، ليس لأحد من خلقه أمر ولا نهي يومئذ.
ومن رفع { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } على البدل من { يَوْمَ } مرفوع قبله أو فتحه - وهو في موضع رفع على البدل منه أيضاً - أو نصبه على البدل من { يَصْلَوْنَهَا (يَوْمَ ٱلدِّينِ) }، لم يبتدئ به. ومن رفعه على إضمار مبتدأ أو نصبه على إضمار فعل بمعنى: اذكر يوم لا تملك، أو فَتَحَه وهو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ابتدأ به.