تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
- قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ }، إلى آخر السورة.
(أي): وأما من أعطي كتاب عمله وراء ظهره. وذلك أن تغلّ يده اليمنى إلى عنقه وتجعل الشمال من يديه وراء ظهره فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره. فلذلك وصفهم أنهم يُؤتُون كتابهم بشمالهم وأنهم يُؤتونها من وراء ظهورهم. قال مجاهد: "تجعل يده من وراء ظهره".
روي أنه يعني به الأسود بن عبد الأسد أخا أبي سلمة هو أول من يأخذ كتابه بشماله.
روي أنه يمد يده ليأخذه بيمينه [فيجتذبه] ملك فيخلع يده فيأخذه بشماله من وراء ظهره. ثم هي عامة في أمثالهما.
- ثم قال تعالى: { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً }.
أي: ينادي بالهلاك (ويقول) (وا) ثبوراه، و "ياويلاه". تقول العرب دعا فلان لَهفَه: إذا قال والهَفَاهُ.
قال الضحاك: { يَدْعُواْ ثُبُوراً }، أي: "يدعوا بالهلاك".
- ثم قال تعالى: { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً }.
من شدده فمعناه [ويصليهم] الله النار تصلية بعد تصلية [وإنضاجة بعد إنضاجة] كما قال: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56].
ومن خفف، فمعناه أنهم يصلونها ويَرِدُونها [فيحترقون] فيها.
- ثم قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }.
أي: إنه كان في الدنيا مسرورا بما هو فيه من خلافه أمرَ الله وكفره به.
- ثم قال تعالى: { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن (يَحُورَ * بَلَىٰ)... }.
(أي): إنه ظن [أنه] لن يرجع بعد الموت ولا يبعث، فركب المعاصي وتمادى على الكفر إذ يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً.
- ثم قال: { بَلَىٰ } أي: بلى يبعث / ويرجع إلى ربه [ويجازى] على عمله.
{ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً }.
أي: إن ربه لم يزل بصيراً بما يأتي من أعماله قبل خلقه إياه وبعد خلقه.
يقال: حار فلان عن كذا، أي: رجع عنه ومنه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُول فِي دُعائِهِ: "الّلهم إنّي أَعُوذّ بِكَ مِن الحَوْرِ بَعدَ الكَونِ " (أي): من الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.
وقيل: معناه: من النقصان بعد الزيادة.
- ثم قال: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ }.
لا زائدة مؤكدة. والمعنى فأقسم برب الشفق.
والشفق الحمرة في الأفق من ناحية المغرب من الشمس بعد غروب الشمس.
وقال مجاهد: "الشفق: النهار كله".
وقيل: الشفق اسم للحمرة والبياض اللذين يكونان في السماء بعد غروب الشمس، وهو من الأضداد.
والشفق الذي تَحلّ بزواله صلاة العَتَمَةِ هو الحُمرةُ عند أكثر العلماء، وهو اختيار الطبري.
والعرب تقول: ثَوبٌ مُشفّقٌ: إذا (كان مصبوغاً) بحُمرةٍ. ثم عطف على القسم فقال:
{ وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ }.
أكثر المفسرين على أن معنى { وَمَا وَسَقَ }: وما جَمَعَ وما آوى وما ستر.
ومنه [يقال]: طعام مسوق: وهو المجموع في غرائر أو وعاء. ومنه الوَسْقُ وهو الطعام المجتمع الكثير مما يُكَالُ أو يوزن.
ويقال: هو ستون صاعاً، وبه (جاء الأثر) عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد: { وَمَا وَسَقَ } "وَمَا لفّ".
وعنه: "وَمَا جمع...".
وعنه: "وما أظلم عليه، وما دخل فيه".
وقال عكرمة: (وما وسق) "وما [ساق] من ظلمة".
وهو قول الضحاك:
- ثم قال تعالى: { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ }.
قال ابن عباس: { ٱتَّسَقَ }: استوى واجتمع. وقاله عكرمة.
وقال الحسن: { إِذَا ٱتَّسَقَ } إذا اجتمع وامتلأ.
وقال ابن جبير: { إِذَا ٱتَّسَقَ } ذلك لثلاث عشرة.
وقال قتادة: { إِذَا ٱتَّسَقَ }. إذا استدار.
- ثم قال تعالى: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ }.
هذا جواب القسم. والمعنى - على قراءة من ضم الباء - { لَتَرْكَبُنَّ } أيها الناس حالاً بعد حال. والإنسان المتقدم ذكره بمعنى الناس، لأنه اسم للجنس، فعليه يعود الضمير في { لَتَرْكَبُنَّ } لأنه قد تقدم ذكرهم في قوله: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } وشماله، وتأخر أيضاً ذكره في قوله: { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }، فلا يصرف الخبر عنهم في { لَتَرْكَبُنَّ } إلى غيرهم إلا بدليل.
وقال ابن زيد: معناه { لَتَرْكَبُنَّ } أيها الناس الآخرة بعد الأولى. فأما من فتح الباء، فإنه جعله مصروفاً إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: لتركبنّ - يا محمد - سماء بعد سماء، وهو قول الحسن وأبي العالية والشعبي.
وقيل: التقدير لتركبَن - يا محمد - الأمور بتغيرها حالاً بعد حال.
[وقيل: المعنى لَتَركبنّ الأمور حالاً بعد حال فتكون الأمورُ فاعلة، [والتاء لتأنيث] الجمع. وهو قول مجاهد].
وقيل: المعنى: لتركبنّ السماء في تشققها وتلونها حالاً بعد [حال]، فيكون الفعل للسماء. وهو قول ابن مسعود. وقال: مرة كالدهان ومرة تشقق.
وكان ابن عباس يقرأ بفتح الباء (ويقول: يعني نبيّكم صلى الله عليه وسلم يقول: حالاً بعد حال.
وقال ابن زيد: معنى ذلك: لتركبَنّ يا محمد الآخرة بعد الأولى. وقيل: القراءة بفتح الباء) على مخاطبة الإنسان على اللفظ، أي: لتركبنّ أيها الإنسان حالاً بعد حال، من مرض وصحة وشباب وهرم.
وقيل: ذلك في يوم القيامة.
فتكون على هذا القراءتان [ترجعان] إلى معنى، إلا أن إحداهما حملت على المعنى فأتت بلفظ الجمع، والأخرى حملت على اللفظ فجاءت بلفظ التوحيد.
وحكى الفراء أنه يقال: وقع في بنات طبق، إذا وقع في أمر شديد. ويقال: مضى طبق من الناس ومضت طبقة وجاءت طبقة.
سُمّوا طبقاً لأنهم يطبقون الأرض.
وقد روي عن بعضهم [أنه] قرأ بالياء وضم الباء على الإخبار عن الناس أنهم سَيَرْكبونَ حالاً بعد حال من الشدائد والأهوال.
- ثم قال تعالى: { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ }.
أي: فما لهؤلاء المشركين لا يصدقون بالبعث بعد الموت؟!
وقد أقسم لهم ربهم أنهم راكبون حالاً بعد حال من شدائد القيامة وأهوالها.
{ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ }: لا يخضعون ولا يستكينون.
- ثم قال تعالى: { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ }.
أي: يكذّبون بآيات (الله)، فلذلك ينكرون البعث.
- { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ }.
أي: والله أعلم بما توعيه قلوب هؤلاء المشركين من التكذيب بآيات الله.
وقال مجاهد: { بِمَا يُوعُونَ } بما يكتمون في صدورهم.
قال الرياشي: يقال أوعى الشيء: إذا كتمه.
وحكى أهل اللغة: أوعيت المتاع في الوعاء، أي: جمعته. فالمعنى على هذا: والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من التكذيب، والإثم.
- ثم قال تعالى: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
أي: الذي يقوم لهم مقام البشرى، عذاب أليم أي: موجع.
والبشارة تكون بالخير والشر. فإذا أفردت كانت خيراً.
يقال: بشّرته وبشَرته خفيفاً.
وقيل: إن البشارة لا تكون إلا للخير / فإن وقعت للشرّ فهو مجاز، على معنى: الذي يقوم مقام البشارة كذا وكذا.
- ثم قال تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }.
أي: إلا الذين تابوا منهم وصدقوا بكتاب الله ورسوله وعملوا الأعمال الصالحة لهم عند الله ثواب غير منقوص.
قال ابن عباس: { غَيْرُ مَمْنُونٍ }، أي: "غير منقوص".
وقال مجاهد: "غير محسوب".
وقيل: معناه: لهم أجر لا يُمَنّ عليهم به فيكدر.