ثم قال سبحانه مهدداً مقسماً: { وَ } الله يا أهل مكة { لَقَدْ أَهْلَكْنَا } بمقتضى قهرنا وجلالنا { ٱلْقُرُونَ } الماضية { مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } أي: حين ظلموا مثل ظلمكم، وخرجوا عن إطاعة الله وإقامة حدوده مثل خروجكم { وَ } هم أيضاً أمثالكم، قد { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } بالبراهين القاطعة، والحجج الساطعة الدالة على صدقهم؛ إنما جاءهم ليمتنعوا عمَّا هم عليه من الظلم والفساد { وَمَا كَانُواْ } أي: أولئك الأمم { لِيُؤْمِنُواْ } لهم، ويصدقوهم فيما جاءوا به أمثالكم، بل كذبوهم وأصروا لهم على ما هم عليه، بل زادوا عليها؛ عناداً ومكابرةً، فأخذناهم بظلمهم، وأهلكناهم بإصرارهم بعدما نبهنا عليهم فلم ينتبهوا { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } [يونس: 13] المصرين على الجرم مع ورود الزواجر والروادع.
{ ثُمَّ } بعد إهلاكهم واستئصالهم { جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ } أي: استخلفناكم، فهم خلفائه { فِي ٱلأَرْضِ مِن بَعْدِهِم } مختبرين، مبتلين أمثالهم { لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس: 14] أتعملون الخير فيجازيكم خيراً، أم تعملون الشر فيجازيكم شراً، مثل ما جزيناهم؟.
{ وَ } هم كانوا من شدة انهماكهم في الغفلة والضلال { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي: مع كونها مبينات لأحوال النشأة الأخرى وأهوال عذابها ونكالها { قَالَ } الكافرون: { ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } بل ينكرون الحشر والنشر، والثواب والعقاب، وجميع ما يترتب على النشأة الأخرى، فكيف لقاءنا فيها { ٱئْتِ } أيها الداعي من عند ربك { بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ } القرآن إن أردت أن نؤمن لك { أَوْ بَدِّلْهُ } وغيِّر بعض آياته المشتملة على الإنذارات والتخويفات الشديدة، فإنا لا طاقة لنا بها.
إنما يقصدون بقولهم هذا استهزاءً وسخريةً برسول الله، واستخفافاً بكتاب الله { قُلْ } يا أكمل الرس في جوابهم: { مَا يَكُونُ } أي: ما يصح ويجوز { لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ } وأحرفه { مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ } على مقتضى أهويتكم الفاسدة { إِنْ أَتَّبِعُ } أي: ما أتبع وانتطر { إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ } وليس في وسعي وطاقتي سوى الاتباع والانتظار، وكيف أتصرف فيه { إِنِّيۤ أَخَافُ } بمجرد استماع قولكم هذا العصيان على نفسي، فكيف { إِنْ عَصَيْتُ } بقصد التبديل والتغير؟ { رَبِّي } استوجبت { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [يونس: 15] كما استوجبتم بسوئكم هذا على سبيل الاقتراح والإلحاح.
{ قُل } أيضاً لهم إلزاماً وتبكيتاً: { لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ } أي: لو تعلق مشيئته غير هذا المتلو { مَا تَلَوْتُهُ } أنا، وما أوحاه علي، وما أجراه على لساني { عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } وأعلمكم على لساني، ولكن تعلق بمشيئته بهذا فأوحاه وأجراه { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً } مدة أربعين سنة { مِّن قَبْلِهِ } أي: قبل وحي القرآن بلا تلاوة وإدراء وإعلام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16] وتستعملون عقولكم في هذا الأمر، ولا تدبرون وتدربون فيه مع أنكم متدربون بأساليب الكلام، متبالغون فيه أقصى الغاية.
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } ونسب إليه ما لم يصدر عنه؛ افتراءً ومراءً { أَوْ كَذَّبَ بِآيَـٰتِهِ } التي صدرت عنه، ونزلت على رسله وأنبيائه؛ لإصلاح أحوال عباده، وإرشادهم مبدأه ومعاده، وبالجملة: { إِنَّهُ } سبحانه { لاَ يُفْلِحُ ٱلْمُجْرِمُونَ } [يونس: 17] المفترون عليه بالأباطيل الزائفة، المكذبون كلامه المنزل من عنده على رسله.