التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١١٠
وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١١
فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٢
وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
١١٣
وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ
١١٤
وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
١١٥
-هود

تفسير الجيلاني

{ وَ } كيف لا نوفي العذاب على المشركين { لَقَدْ آتَيْنَا } من عظيم جودنا { مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ } أي: التوراة حين فشا الجدال والمراء والكفر والفسوق بين بني إسرائيل واضمحلت العدالة الإلهية بالكلية { فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } مثل اختلافهم في كتابك الذي هو أفضل الكتب علماً وإحاطة، وأجمعهم حكماً، وأشملهم معرفة، وأكملهم حقيقة وكشفاً { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } في أنظار هؤلاء الكفرة وإمهالهم إلى يوم القيامة { لَقُضِيَ } أي: حكم ورفرق { بَيْنَهُمْ } الآن، بحيث يتميز المحق من المبطل، فليلحق المبطلين وبال ما صنعوا، فهلكوا كما هلكوا { وَإِنَّهُمْ } أي: كفار قوموك، من غاية انهماكهم في الغفلة وتماديهم في العناد والاستكبار { لَفِي شَكٍّ } أي: من أمر القرآن مع أنهم عارضوا معه مراراً فأفحموا { مِّنْهُ مُرِيبٍ } [هود: 110] موقع المريب الشك للخرفاء المنحطين عن التأمل في مرمزاته والتدريب في إشارته.
{ وَإِنَّ كُـلاًّ } أي: كلاً من المؤمنين المحقين والمبطلين الكافرين، والله { لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } ويوفون عليهم بلا زيادة وتنقيص؛ إظهاراً للقدرة الكاملة والعدالة التامة الشاملة { رَبُّكَ } الذي أظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة { أَعْمَالَهُمْ } أي: أجورها وجزاءها، إن خيراً فخير وإن شراً فشر { إِنَّهُ } سبحانه بذاته وأوصافه وأسمائه { بِمَا يَعْمَلُونَ } من الخير والشر والصلاح والفساد والعبادة وتركها { خَبِيرٌ } [هود: 111] على وجه الحضور، لا تغ يب عنه غائبة ولا تخفى عنه خافية.
ومتى تلطفت يا أكمل الرسل بخبرة الحق وحضوره، وتنبهت تنبيهاً وجدانياً حضورياً وانكشفت بها انكشافاً عينياً شهودياً { فَٱسْتَقِمْ } أي: فاعتدل في أوصافك و أفعالك وأقوالك { كَمَآ أُمِرْتَ } من ربك بوحيه عليك وإلهامه إليك، وأمر أيضاً بالعدالة والاستقامة { وَمَن تَابَ مَعَكَ } وآمن لك واتخذ طريقط مسلكاً إلى الحق { وَ } بالجملة: { لاَ تَطْغَوْاْ } أي: لا تميلوا ولا تخرجوا أيها المتحققون بحقية التوحيد واستقامة صراطه ولا تنحرفوا عن سبيل السلامة التي هي جادة الشريعة والمصطفوية أصلاً { إِنَّهُ } سبحانه بذاته { بِمَا تَعْمَلُونَ } من جميع الأعمال الموجبة للعدالة والانحراف { بَصِيرٌ } [هود: 112] لا يخفى عليه شيء.
ولصعوبة الامتثال بهذه الآية الكريمة قال صلى الله عليه وسلم:
"شيبتني سورة هود" .
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "هذه الآية قصمت ظهور أنبياء الله وأوليائه".
{ وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ } أي: لا تميلوا ميلة ولا تلفتوا التفاتاً قليلاَ أيها المستوون على صراط الله، المستقيمون لجادة عرفانه { إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي: خرجوا عن حدود الله الموضوعة لإصلاح أحوال عباده { فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ } بأدنى الميل والالتفات { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } ينقذونكم من النار لو توالونهم أو تداومون الميل إليهم { ثُمَّ } اعلموا أنكم لو اخترتم موالاة الظلمة واتخذتموهم إخواناً كسائر المؤمنين { لاَ تُنصَرُونَ } [هود: 113] ولا نقذون من النار، فعليكم ألا تتخذوا الكافر أولياء من دون المؤمنين.
{ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أي: أدم الميل والركمون إلى الله بجميع الأعضاء والجوارح في جميع الأوقات والحالات، سيما { طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } أي: قبل الطلوع وقبل الغروب، فإنهما وقتان محفوظان عن وسوسة الأوهام، حاليان غالباً عن الشواغل { وَ } عليكم أن تختلس لتوجهيك { زُلَفاً } أي: ساعات { مِّنَ } آخر { ٱلَّيْلِ } قريبة بالنهار، فإن إقدامك عليها وإقامتك لها حسنات، خصوصاً في تلك الساعات الخالية عن وساوس الخيالات { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ } الخالية عن الرياء والرعونات { يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } وتصفي صاحبها عن كدر الغفلات { ذٰلِكَ } أي: الامر بالاستقامة على المتعظين، الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويتعظون بجميع ما ج رى عليهم من الخصب والرخاء، إنما هو { ذِكْرَىٰ } وعظة وتذكرة شافية { لِلذَّاكِرِينَ } [هود: 114] الله في عموم أحوالهم وحالاتهم.
وبالجملة: { وَٱصْبِرْ } على أذاهم واكظم غيظك، فإن الصبر على الأذى من أعظم الحسنات { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [هود: 115] سيما على من أساء عليه.