ثمَّ قال سبحانه امتناناً لكم، وتنبيهاً عن دناءة منشأكم، ثمَّ على شرف مكانتكم وعلو شأنكم: أيها المكلفون من الثقلين، القابلون للإيمان والمعارف {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ} أي: أظهرنا جنسه، وقدرنا جسمه {مِن صَلْصَالٍ} أي: طين يابسٍ مصوتٍ من غاية يبسه وبقائه على حر الشمس، متخذٍ {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] أي: من طين أسود منتن كريه الرائحة، يستكره ريحه جميع الحيوانات.
{وَٱلْجَآنَّ} أي: جنسه أيضاً {خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أي: من قبل إيجاد الإنسان من مادة أدنى أيضاً؛ إذ هو متخذ {مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ} [الحجر: 27] أي: شديد الحر متناه فيه.
انظروا أيها المعتبرون إلى نشأتكم ومادتكم {وَ} اذكروا تشريف ربكم إياكم وقت {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} يا أكمل الرسل، خصه سبحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخطاب؛ للياقته وكمال استحقاقه أن يكون مخطاباً معه، كأنه لجمعية مرتبته عموم مراتب بني نوعه، عبارةُ عن جميعهم {لِلْمَلآئِكَةِ} على سبيل الإخبار والتعليم: {إِنِّي} لمطالعة جمالي وجلالي، وجميع أوصاف كمالي على التفصيل {خَالِقٌ} ومقدرُ {بَشَراً} أي: تمثالاً متخذاً {مِّن صَلْصَالٍ} متخذة {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] بعيدٍ بمراحل عن مقاربتي؛ إذ هو أخس الأشياء وأدونها.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي: عدلته وكملت هيكله وشكله {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} ورشئت عليه من رشحات نور وجودي ليكون حياً بحياتي، ومرآة لي أطالع فيها جميع أسمائي وأوصافي {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] فعليكم أن تضعوا جباهكم على تراب المذلة عنده تعظيماً له وتكريماً.
ولما سمعوا الأمر الوجوبي القطعي {فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ} بلا طلب مرجح ودليل {كُلُّهُمْ} بلا خروج واحد منهم {أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] مجتمعون معاً بلا تقدم وتأخر، وتردد وتسويف.
{إِلاَّ إِبْلِيسَ} الذي هو منهم تبعاً لأصالته {أَبَىٰ} عن السجود، وامتنع {أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ} [الحجر: 31].
ثمَّ لما تخلف إبليس، وركن عن أمر الله {قَالَ} سبحانه توبيخاً وتقريعاً: {يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ} أي: أي: شيء عرض لك يا إبليس {أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ} [الحجر: 32] الخاضعين الواضعين جباههم على تراب المذلة امتثالاً للأمر الوجوبي؟!.
{قَالَ} إبليس محتجاً على الله، طالباً للرجحان والمزية على سبيل الإنكار والتعريض: {لَمْ أَكُن} أي: لم يصح مني، ولم يستحسن عني، ولم يلق لمرتبتي {لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} جسماني ظلماني كثيف {خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ} أكشف وأظلم منه، وأخذت الصلصال {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 33] لا شيء أظلم منه وأبعد عن ساحة عز القبول، والتمثالُ المشتمل على هذه الظلمات المتراكمة لا يليق أن يَخضع ويسجد له الروحاني النوراني.
قال سبحانه طرداً له وتبعيداً: إذا تخلفت يا أبليس عن أمري، وخرجت عن مقتضى حكمي {قَالَ} أيها المردود {فَٱخْرُجْ} أي: من بين الملائكة، ولا تعد نفسك من زمرتهم، فإنهم مقبولون مطيعون، وأنت مردود ومطرود {مِنْهَا} بتخلفك عن مقتضى أمرنا {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] بعيد عن رحمتنا وكرامتنا.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ} والطرد والتخذيل، نازلةُ مستمرة {إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ} [الحجر: 35] مقرك ومقيلك النار المعدة لك، ولمن تبعك من عصاة العباد.
ثمَّ لما أيس إبليس عن القبول، وقنط عن رحمة الله {قَالَ} مشتكياً متحسراً متأوهاً: {رَبِّ} يا من ربَّاني بأنواع الكرم والنعم، فكفرت نعمك بمخالفة أمرك {فَأَنظِرْنِي} وأمهلني {إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] ويحشرون؛ لأغوي بني آدم، وأنتقم عنهم.
{قَالَ} سبحانه: {فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ} [الحجر: 37] لتكون عبرة للعالمين.
{إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ} [الحجر: 38] أي: إلى وقت لا يمكن فيه تلاقي التقصير، وكسب الزاد للمعاد، وتهيئة الأسباب ليوم المعياد.
قيل: هي النخفة الأولى لحشر الأجساد.
{قَالَ} إبليس مقسماً مبالغاً: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي: بحق قدرتك التي أغويتني وأضللتني بها، وأحطتني عن رفعة منزلتي، وأخرجتني من بين أحبتي وأخوتي {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} أعمالهم الفاسدة، وأحسن عليهم الأفعال القبيحة {فِي ٱلأَرْضِ} وإغريتهم إلى ارتكاب أنواع المفاسد والمقابح عليها، وأصناف الجرائم والآثام المائلة إليها نفوسهم طبعاً {وَ} بالجملة: {لأُغْوِيَنَّهُمْ} وأضلنهم {أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] بحيث لا يشذ عنهم أحد من ذوي النفوس الأمارة.
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] المخلصين رقابهم عن ربقة الأمارة، المطمئنين المتمكنين في مقام الرضا والتسليم.
{قَالَ} سبحانه على مقتضى إشفاقه ورحمته: {هَذَا} أي: إخلاص المخلصين المطمئنين، الراضين بما جرى عليم من قضائي {صِرَاطٌ عَلَيَّ} وطريق موصل إلى توحيدي، ووحدة ذاتي واستقلالي في آثار أوصافي وأسمائي {مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] لا عوج فيه أصلاً، من توجه إليّ عن هذا الطريق فاز ونجا، بحيث لا يعرضه الضلال والانحراف أصلاً، وكيف يعرضه؛ ذ هو من خلَّص عبادي؟!.