التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٩٨
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٩٩
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
١٠٠
وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ
١٠٢
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ
١٠٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٠٤
إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٠٥
مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٦
-النحل

تفسير الجيلاني

ومن جملة الأعمال الصالحة المثمرة للحياة الطيبة المعنوية، بل من أجلّها: قراءة القرآن المشتمل على المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات المترتبة على سلوك طريق التوحيد والعرفان { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } أي: قصدتَ قراءته أيها القارئ الطالب لاستكشاف غوامض مرمزاته، ومعضلات إشاراته { فَٱسْتَعِذْ } والتجأ أولاً { بِٱللَّهِ } المتجلي بصفة الكلام المعجز لقاطبة الأنام، الحفيظ لخلَّص عباده من جميع ما لا يعنيهم من المعاصي والآثام { مِنَ } وساوس { ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [النحل: 98] المطرود والمعبد عن ساحة عزِّ الحضور برجوم آثار الأوصاف القهرية الإلهية، ومن غوائله وتسويلاته التي هي جنود الهوى والغفلة، والتخيلات الباطلة، والتوهمات المثيرة لأنواع الأماني والشهوات.
{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي: استيلاء وغلبة { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بتوحيد الله، وأيقنوا بحقية كتبه ورسله، وباليوم الموعود وما فيه من العرض والجزاء { وَ } مع ذلك { عَلَىٰ رَبِّهِمْ } ومربيهم لا على غيره من الأسباب الوسائل العادية { يَتَوَكَّلُونَ } [النحل: 99] ويُسلمون ويُسندون جميع أمورهم إليه أصالةً.
وكيف يكون للشيطان استيلاء على المؤمنين الموقنين؛ إذ هم يعادونه عداوةً شديدةً، ويخاصمون معه مخاصمة مستمرة { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ } واستيلاؤه { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } ويحبونه ويقبلون قوله، ويسمعون غوايته، ويطيعون أمره { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ } أي: بسبب إغوائه وإغرائه ووسوسته { مُشْرِكُونَ } [النحل: 100] بالله الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد.
ثمَّ قال سبحانه: { وَ } من كمال قدرتنا، ووفور حكمتنا: نسخ بعض الآيات وتبديلها بالنسبة إلى بعض الأعصار والأزمان، فإنا { إِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً } ناسخة { مَّكَانَ آيَةٍ } منسوخةٍ لحكمة ظهرت علينا، ومصلحة لاحت لدينا، فلا بدَّ ألاَّ نُسأل عن نسخنا وتبديلنا، بل عن جميع أفعالنا مطلقاً، ولا يُسند فعلنا إلى غيرنا مطلقاً { وَ } كيف يُسند فعله سبحانه لغيره؛ إذ { ٱللَّهُ } المطلع لجميع ما كان ويكون اطلاع حضور وشهود { أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } بحسب الأوقات والأزمان، فله نسخ ما ثبت، وإثبات ما نسخ { قَالُوۤاْ } أي: المشركون المعاندون حين ظهر في القرآن نسخ بعض الآيات المثبتة، وإثبات بعض المنسوخات القديمة متهكمين طاعنين: { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } أي: ما أنت أيها المدَّعي للرسالة والوحي إلاَّ مفترٍ كذاب، قلتَ بقولٍ من تلقاء نفسك، ثمَّ ظهر لك ما فيه، بلدتَ بأخرى على مقتضى أهوائك وأمانيك، ونسبته إلى ربك افتراءً ومراً، مع أنك أخبرت أن ربك يقول:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } [ق: 29]، كل ذلك؛ أي: النسخ والتبديل، والإنزال من عندنا لحكمة ظهرت علينا { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [النحل: 101] حكمة النسخ والتبديل في الأحكام، فينكرونها.
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل، ما أنا مفتر في هذا النسخ والتبديل، بل { نَزَّلَهُ } أي: القرآن { رُوحُ ٱلْقُدُسِ } أي: جبرائيل عليه السلام عليّ هكذا، وهو منزه عن جميع النقائض، فكيف عن الافتراء، وأوصاني أنه منزل { مِن رَّبِّكَ } الذي ربَّاك بأنواع التربية، وأيدك بهذا الكلام المعجز ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } والصدق المطابق للواقع بلا شائبة شك وتردد، وإنما أنزله { لِيُثَبِّتَ } ويقرر { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } تثبيتاً وتقريراً في مرتبة اليقين العلمي { وَهُدًى } أي: هدايةً ورشداً للعارفين المتحققين في مرتبة اليقين العيني { وَبُشْرَىٰ } أي: بشارة وتمكيناً لأهل الكشف والشهود في مرتبة اليقين الحقي، كل ذلك { لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 102] المسلّمين أمورهم كلها إلى الله طوعاً ورغبة.
ثمَّ أخبر سبحانه عن مطاعن المشركين بالقرآن والرسول، فقال: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ } لا يسلّمون نزول القرآن منا وحياً وإلهاماً، ويكذبونك يا أكمل الرسل في نسبتك إنزاله إلينا، بل { يَقُولُونَ } ما هو إلاَّ مفترٍ { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ } هذا { بَشَرٌ } أي: عبدٌ رومي، أو رجلٌ من العجم، أو رجالٌ أخر على ما قالوا، وكيف يقولون وينسبون أولئك المكابرون المعاندون هذا إلى القرآن؛ إذ { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ } أي: يميلون وينسبون { إِلَيْهِ } عناداً { أَعْجَمِيٌّ } معلّق غير بيّنٍ، وأنت عربي لا تفهم لغتهم { وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ } فصيح { مُّبِينٌ } [النحل: 103] واضحٌ بليغٌ في أعلى مراتب البلاغة، بحيث عجزت عن معارضته مصاقع الخطباء مع كمال تحديهم، ومع ظهور إعجازه واعتراف الكل بأنه معجزٌ، لم يقبلوا حقيته، ولم يصدقوا أنه كلام الله.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدة ذاته، وكمال أوصافه وأسمائه، طبع الله على قلوبهم وختمها، بحيث { لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ } المضلُّ المذلُّ إلى حقية كتابه ورسوله الذي أنزل إليه، بل { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 104] في النشأة الأولى والأخرى، ثمَّ قلّبَ سبحانه ما فتروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاده عليه، فقال: { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ } على الله بنسبة كلامه إلى غيره { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولا يصدقون { بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على كمال توحيده { وَأُوْلـٰئِكَ } المفترون المسرفون { هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [النحل: 105] المقصورون على الكذب والافتراء والمراء من شدة قسوتهم، وخبث باطنهم.
{ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ } المستحق للإيمان والعبودية، سيما ارتد { مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } أي: بعدما آمن له - العياذ بالله - فقد استحق غضب الله وقهره { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } على الكفر، وهَدِّدَ بالقتل وأنواع العقوبات حين العجز، فأجرى كلمة الكفر على لسانه { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } متمكن فيه، راسخ غير متزلزلٍ، بلا مطابقةٍ وموافقةٍ بلسانه، فهو باقٍ على إيمانه، ولا غضب عليه، بل له الأجر الجزيل؛ لأن العبرة في الإيمان والكفر بالقلب، لأنهما فعلان له أصالةً { وَلَـٰكِن } من المغضوبين { مَّن شَرَحَ } وملأ { بِالْكُفْرِ صَدْراً } اعتقاداً أو رضاءً مستحسناً له، مستطيباً إياه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وقهرٌ نازلٌ { مِّنَ ٱللَّهِ } المنتقم الغيور { وَلَهُمْ } في النشأة الأخرى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106] لعظم جرمهم الذي هو الارتداد، العياذ بالله.