التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٣
إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٢٤
ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
١٢٥
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
١٢٨
-النحل

تفسير الجيلاني

{ ثُمَّ } بعدما أشرنا إليك يا أكمل الرسل كما استحقاقه، ولياقته للاقتدار والمتابعة { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } تكريماً لك وله { أَنِ ٱتَّبِعْ } في إيصال الدعوة، وتبليغ الرسالة، وإظهار الدين والأحكام، والرق والتليين مع الأنام، والحكم والتواضع معهم على أبلغ وجه وأكمل نظام { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي: خصلة جدك - عليك و عليه الصلاة والسلام - إذ كان { حَنِيفاً } مائلاً عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في جميع الأطوار والأخلاق، والأفعال والأقوال { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [النحل: 123] المستكبرين في خُلُقٍ من الأخلاق، ووصفٍ من الأوصاف، بل كان على مقتضى صرافة التوحيد، وعدالة اليقين والتحقيق؛ لذلك صار إماماً للموحدين إلى قيام الساة.
ثمَّ قال سبحانه تعييراً على المشركين، وتقريعاً لهم: { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ } أي: قُدر وفرض لحوق وبال يوم السبت، وأنواع العقوبات والمسخ { عَلَىٰ } المشركين { ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } وجادلوا مع نبيهم في تعيينه واختياره؛ إذ أمرَهم موسى عليه السلام بتعظيم يوم الجمعة واتخاذها عيداً، فأبوا معللين: إن الله قد فرغ من خلق السماوات والأرض في السبت، فنحن نوافقه، ونتخذه عيداً، فألزمهم الله تعظيم السبت، وتحريم الصيد فيه، فاحتالوا فيه، فاصطادوا بالمكر، فمسخهم الله، ولحقهم من الوبال ما لحقهم { وَإِنَّ رَبَّكَ } يا أكمل الرسل { لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [النحل: 124] ويجادلون مع الرسل، فيجازيهم ويعاقبهم على مقتضى ما صدر عنهم.
ثمَّ أشار سبحانه إلى تتميم تكريم حبيبه صلى الله عليه وسلم، وتعظيم رتبته، وتهذيب أخلاقه، وتكميل حكمته ورسالته، وتعميم رأفته ورحمته إلى جميع البرية، وكافة الخليقة؛ إذ هو مبعوث على الكل بالرحمة العامة، وهو خاتم الرسالة والنبوة، ومكمل أمر التشريع والتكميل؛ إذ العلة الغائبة في مطلق التشريع والإنزال والإرسال إنما هي ظهور مرتبته ومكانته التي هي الدعوة إلى التوحيد الذاتي، ومتى ظهرت فقد كملت وتمت؛ لذلك نزل في شأنه:
{ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3].
وهي آخر أية نزلت من القرآن، وقال صلى الله عليه وسلم:
"بُعِثْتُ لأُِتَمَّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ" فقال مخاطباً له خطاب تمكينٍ وتكريم: { ٱدْعُ } يا أكمل الرسل { إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ } أي: إلى طريق توحيد مربيك الذي أرشدك إلى معارج عنايته، وهداك إلى كمال كرامته كافة البرايا، وعامة العباد { بِٱلْحِكْمَةِ } البالغة المكيفة لقلبهم عن صلابة التقليدات الراسخة الموروثة لهم عن أسلافهم، المصفية نفوسهم عن الحمية الجاهلية المتمكنة فيها، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة فيها، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة على البشرية، المزيلة لأنواع الشبه والتخيلات الناشئة من الأسباب والوسائل العادية المقنعة، ملائمة للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها رجاء أن يتفطنوا، ويتنبهوا بمقتضى جِبِلَّتهم وفطرتهم.
{ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } الموروثة لهم يقظاناً من سِنَة الغفلة، ونوم النيسان، المحصلة لهم شوقاً وسروراً إلى مُبدئهم ومُنشئهم، الموغّبة لهم إلى اللذات الروحانية الدائمة الباقية المستمرة بلا ورود زوالٍ وانقطاعٍ، المنفِّرة عما هم عليه من العوائق، والعلائق العائقة من اللذات الوهمية المنقضية المنقطعة المورِثة لأنواع المحن والأحزان.
{ وَ } إن احتجت يا أكمل الرسل في دعوتهم إلى المجادلة معهم والمكالمة { جَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي } أي: بالطريق التي { هِيَ أَحْسَنُ } الطرق وأسلمها، وأعدلها من المقدمات المعتدلة الدالة على المساواة من كلا الجنابين برفق وتليين ومسكنة، وإرخاء عنان خالٍ عن السطوة والتهور، والغضب والتجبر، وعن التمسخر والضحك والاستهزاء، والتجهيل والتسفيه، والتشنيع الشنيع، كما يفعله عوام العلماء في محاوراتهم ومنظاراتهم؛ إذ هي بعيدة عن الحكمة بمراحل، مثيرة لأنواع الفتن والخصومات، فلك ألاَّ تبالغ في إهدائهم وإيمانهم، ولا تتشوش وتتحزن عن ضلالهم وطغيانهم؛ إذ ما عليك إلاَّ تبليغ ما أُرسلت به.
وأما حصول الهداية والضلالة فيهم فأمر خارج عن وسعك وطاقتك { إِنَّ رَبَّكَ } المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم { هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } الموصل إلى توحيده { وَهُوَ } أيضاً { أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } [النحل: 125] إذ قدَّر في سابق قضائه هدايتهم وضلالهم، وكذا جميع ما جرى عليهم في شئونهم وتطوراتهم على التفصيل، بحيث لا يشذّ عن حيطة علمه شيء منها.
وبعدما أمر سبحانه حبيبه بما أمر من آداب الدعوة، وأخلاق الرسالة والنبوة، ومراعاة حقوق الأنام، والمداراة معهم، أشار إلى المجازاة والمحاذاة، والقصاص والعقوبات الواقعة في أمر الرسالة، ووضع التشريع والتبليغ، إذ هي مبنية على الأمر بترك المألوفات، وترك العادات والاعتقادات، وترك التخمينات والتقليدات؛ لذلك لا يخلو عن المنازعات والمخاصمات المؤدية إلى أنواع الجنايات.
فقال سبحانه مخاطباً له ولمن تبعه من المؤمين، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } أيها المؤمنون منتقمين عنهم { فَعَاقِبُواْ } أي: فعليكم أن تعاقبوا { بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } لا أزيد منه؛ إذ الزيادة منافية لاعتدال الإيمان والتوحيد { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } أيها المؤمنون على ما أصابكم من العقوبات، وأعرضتم عن الانتقام صفحاً، وكظمتم الغيظ كظماً { لَهُوَ } أي: العفو والكظم { خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [النحل: 126] الذين صبروا على ما أصابهم من المكروهات، مسترجعين إلى الله، منزلين إنزاله إليه سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين، بل يعدون العناء عطاءً، والترح فرحاً، والنقمة نعمةً، والمحنة منحةً؛ لصدورها من الله.
وبعدما خاطب وأوصى سبحانه للمؤمنين بالصبر والعفو على وجه العموم، وترك الانتقام، خص رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب؛ لكونه أحق وأولى بامتثال أمثاله؛ إذ هو جامع جميع مرابت الكمال بالاستحقاق والاستقلا ل، فقال: { وَٱصْبِرْ } أيها المتحقق المتمكن في مقر التوحيد، المسقط لجميع الإضافات على ما جرى عليك من الأذيات المترتبة على بشريتك وناسوتك { وَمَا صَبْرُكَ } وكظمُك بعد فنائك عن بشريتك { إِلاَّ بِٱللَّهِ } المتجلي عليك بالإطلاق إلى أن انخلعتُ عنك لوازم ناسوتك، وما بقيت لك إلاَّ لوازم لاهوتك، وظاهر أنه لا يجري فيها المكروه والمنكر { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي: على المؤمنين بما لحقهم من المنافرات والمشوشات { وَلاَ تَكُ } بعد انشراح صدرك بالتوحيد الذاتي { فِي ضَيْقٍ } ضيق صدر، وحزن وكآبة { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل: 127] أولئك الماكرون المعاندون المكابرون.
{ إِنَّ ٱللَّهَ } المختبر لأنبيائه وأوليائه، وخواص عباده بأنواع الأذى والمحن الجسمانية { مَعَ } الصابرين { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } وأَخذوا عن الانتقام وقت الغدوة طلباً لمرضاة الله وجرياً على مقتضى توحيده { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل: 128] على من أساء إليهم رفقاً له، وتلطيفاً إيام ابتغاءً لمرضاة الله، وتثبيتاً في طريق وتوحيده.
أذقنا حلاوة توحيدك، وأصبرنا على ما جرى علينا من المحن، والعطاء والعناء طلباً لمرضاتك، إنك على ما تشاء قدير.
خاتمة السورة
عليك أيها المسترشد الخبير البصير - أرشدك الله إلى امتثال ما سمعتَ في هذه السورة، سيما في الكريمة المذكورة آنفاً، ورزقك الاتصاف بما فيها من الحِكَم والآداب، والأخلاق المرضية، والسجايا الفاضلة - أن تتأمل فيها حق التأمل والتعمق، حالَ كونك خالياً صافياً عن الكدورات العارضة من طغيان القوى البهيمية، والحميّة الجاهلية، تاركاً بما عرض عليك من الأغراض النفسانية المترتبة على الأمور العادية، المستلزمة فيه لأنواع الضلال والفساد من التفوق على الأقران، والترفع على الإخوان، والتكبر على ضعفاء الأنام، والتلذذ بالسمعة والرياء المثيرة لأصناف الأهواء الفاسدة، والآراء الباطلة التي لا يمكن قلعها وقمعها أصلاً، سيما تمرنتَ ورسختَ، فلك أن تراجع وجدانك بأي شيء أردت الترفع، وقصدت التفوق والتفضل، أما ترى منشأك ماذا؟! أما استحييت التفوه من هذا وهذا؟!.
وأمّا قصة كرامتك وخلافتك التي هي من المواهب الإلهية، والعطاءات الغيبية، فإنما هي مبنية على محض التذلل والتواضع، والخضوع والانكسار مع كل ذرةٍ من ذرائر الكائنات؛ إذ مبناه على الحكمة المتقنة المتشعبة من أسرار سرائر الرسالة والنبوة، وهي عبارة عن اعتدال جميع الأوصاف، وتزكية النفس عن جميع الرذائل، بل هي مبنية على إفناء متقضيات الأوصاف البشرية رأساً إرادةً واختياراً.
وبالجملة: من أنصف على نفسه أدرك أن جميع ما في نفسه سوى التذلل والانكسار، والمسكنة والافتقار، حال كونه خالياً عن شوب الرياء والسمعة، والعُجب والجَرْبَزَة، إنما هي رعونات صدرت من طغيان القوى البهيمية المؤيدة بالعقل المستعار المموه بتمويهات الأوهام الباطنة، وتزيينات الخيالات الكاذبة.
هب لنا من لدنك جذبةً تنجينا من أنانيتنا، ولذةً تلجئنا إلى سلوك طريق الفناء الموصل إلى البقاء السرمدي، إنك أنت الوهاب.