{ ثُمَّ } بعد تعذيبهم في النشأة الأولى { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ } أي: يخذلهم الله، ويرديهم بتكذيب كلام الله ورسوله { وَيَقُولُ } لهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع: { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ } أيها الضالون المضلون، والمنهمكون في الغي والضلال { تُشَاقُّونَ } وتعادون { فِيهِمْ } أي: في حقهم وشأنهم المؤمنين، وتعارضون معهم بادعاء الألوهية لأولئك التماثيل العاطلة الباطلة، ادعوهم حتى ينجوكم ويخصلوكم من عذابي وبطشي { قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } من الأنبياء ةالرسل، وخلفائهم الذين دعوهم إلى الإيمان فلم يؤمنوا، بل يكذبونهم وينكرون عليهم، وعلى دينهم ونبيهم حين أبصروا أخذ الله إياهم شامتين لهم، متهكمين عليهم: { إِنَّ ٱلْخِزْيَ } أي: الذلة والصغار { ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ } المفرط المجاور عن الحد نازلُ { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [النحل: 27] المستكبرين الذين كذبوا الرسل، وأنكروا الكتب، واستهزءوا معهم.
وهم { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ } الموكلون عليهم حين معارضتهم بالقرآن وتكذيبهم إياه وبمن أُنزل إليه، مع كونهم { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } ومعارضيها على العذاب الأبدي، ثمَّ لما عيانوا في النشأة الآخرة بحقيته وصدقه، ومطابقته للواقع { فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ } أي: الانقياد والتسليم، مبرئين نفوسهم عن التكمذيب والإساءة مع القرآن، قائلين: { مَا كُنَّا } في النشأة الأولى { نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ } أي: ما نريد ونعتقد الإساءة في حقه، فيقول الملائكة لهم على سبيل التهكم: { بَلَىٰ } أنتم لا تسيئون الأدب مع الرسول والقرآن { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع بجميع ما كان ويكون { عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل: 28] من الرد والإكار والتكذيب، فيجازيكم على مقتضى علمهز
ثمَّ قيل لهم زجراً وقهراً: { فَٱدْخُلُوۤاْ } أيها المشركون المستكبرون، المعاندون مع الله ورسوله { أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } كل فرقة منكم من باب منها، على تفاوت طبقاتكم في موجباتها، وادخلوا أنواع عذابها ونكالها، حال كونكم { خَالِدِينَ فِيهَا } مخلدين مؤيدين { فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ } [النحل: 29] جنهم البعد والخذلان التي هي منزل الطرد والحرمان.
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } عن محارم الله، وحفظوا نفوسهم عن العرض على المهالك الموجبة لسخط الله وعضبه: { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } على نبيكم لتربية دينكم، وتصفية مشربكم عن أكدار التقليدات والتخمينات { قَالُواْ } أنزل { خَيْراً } محضاً في النشأة الأولى والأخرى، أما في الأولى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا } وعملوا الصالحات المقربة إلى الله { حَسَنَةٌ } كاملة من العلوم والمعارف المثمرة للمكاشفات والمشاهدات { وَ } أما في الآخرة: فا { لَدَارُ ٱلآخِرَةِ } المعدة للفوز بشرف اللقاء، والوصول إلى سدرة المنتهى { خَيْرٌ } من جميع الكاملات الأقصى، والدرجات العليا { وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } [النحل: 30] المتحفظين نفوسهم عن الالتفات إلى ما سوى الحق.
دار الآخرة التي هي { جَنَّاتُ عَدْنٍ } مصونة عن أمارات الكثرة المشعرة للاثنينية { يَدْخُلُونَهَا } مجردة عن جلباب التعينات العدمية { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } المنتشئة عن التجليات المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } من مقتضيات الأوصاف اللطفية الحبية الجمالية { كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } [النحل: 31] المائلين عن غير الله مطلقاً، الباذلين مهجهم في سبيله طوعاً المنخلعين عن مقتضيات أوصاف بشريتهم إرادةً واختياراً، الصابرين على ما جرى عليهم من القضاء تسليماً ورضاً.
وهم { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } الموكلون عليهم في نشأتهم، حال كونهم { طَيِّبِينَ } طاهرين عن خبائث الإمكان، ورذائل الخذلان والخسران، الناشئة من ظلمات الطبائع والأركان { يَقُولُونَ } أي: الملائكة المأمورين لقبض أرواحهم عند قبضها: { سَلامٌ عَلَيْكُمُ } أيها الصابرون في البلوى، السائرون إلى المولى { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } التي هي خير المنقلب والمثوى، وفوزوا بشرف اللقيا { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل: 32] في النشأة الأولى من الإعراض عن مقتضيات الهوى، ومن الرضا بالقضاء، ومن الصبر على العناء، والشوق إلى الفناء.
ثمَّ قال سبحانه توبيخاً وتقريعاً على المشركين: { هَلْ يَنْظُرُونَ } أي: ما ينتظرون أولئك التائهون في تيه الغفلة والغرور { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ } المأمورون لقبض أرواحهم الخبيثة { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل؛ أي: يوم القيامة المعدة لتعذيبهم وانتقامهم { كَذَلِكَ } أي: مثل إمهال هؤلاء الهالكين وإهمالهم في أمر الإيمان { فَعَلَ ٱلَّذِينَ } مضوا { مِن قَبْلِهِمْ } في زمن الأنبياء الماضين { وَ } بالجملة: { مَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ } المجازي لهم على مقتضى إساءتهم { وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل: 33] أي: يظلمون هم أنفسهم بعرضها على المهالك الموجبة أنواع العذاب والعقاب من تذكيب الرسل، وإنكار الكتب، وترك المأمورات، وإرتكاب المنهيات.