التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٥
وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٧٠
وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٧١
-النحل

تفسير الجيلاني

{ وَٱللَّهُ } الهادي لعباده إلى زلال توحيده { أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ } أي: الطبيعة الهيولانية { مَآءً } أي: معارف وحقائق وعلوماً لدنية { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ } أي: الطبيعة الهيلاونية { بَعْدَ مَوْتِهَآ } أي: بعدما كانت عدماً صرفاً، فاتصفت بالعلوم الإدراكات الجزئية، وترقت منها متدرجاً إلى أن وصلت إلى مرتبة التوحيد المسقط للإضافات مطلقاً { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } التبيين والتذكير { لآيَةً } دلائل وشواهد دالة على توحيد الحق { لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [النحل: 65] سمع قبول وتأمل وتدبر.
{ وَإِنَّ لَكُمْ } أيضاً أيها المتأملون المتدبرون { فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } لو تعتبرون بها، وتتفكرون فيها حق التفكر والتدبر لانكشفتم بعجائب صنعنا، وكمال قدرتنا، ومتانة حكمتنا، وحيطة علمنا وإرادتنا؛ إذ { نُّسْقِيكُمْ } ونُشربكم { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } أي: مما في بطون بعض الأنعام مستخرجاً { مِن بَيْنِ فَرْثٍ } أي: أخلاط وفضلات مستقرة في كرشها { وَدَمٍ } نجس سائل، سارٍ في العروق والشرايين { لَّبَناً } طاهراً { خَالِصاً } صافياً عن كدورات كلا الطرفين، بحيث لا يشوبه شيء منهما، لا من لون الدم، ولا من ريح الفرث { سَآئِغاً } سهل المرور والانحدار، هنيئاً مرئياً { لِلشَّارِبِينَ } [النحل: 66] بلا تسعر لهم في شربه ولا كلفة.
{ وَمِن } نسقيكم أيضاً أيها المعتبرون { ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ } بحيث { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ } أي: من عصير كل منهما { سَكَراً } خمراً، يترتب على شرب السكر المسكر، وهو وإن كان حراماً شرعاً، إلاَّ أنه يدل على عجائب صنع الله، وبدائع حكمته، وغرائب إبداعه واختراعه { وَ } تتخذون من كل منها { رِزْقاً حَسَناً } كالتمر والزبيب، والدبس والخل، وأنواع الأدم { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الاتخاذ { لآيَةً } دالة على كما قدرة الله وحكمته { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [المحل: 67] أي: يستعملون عقولهم بالنظر والتفكر في آلاء الله ونعمائه؛ كي يتفطنوا إلى وحدة ذاته.
{ وَ } من عجائب المبدعات، وغرائب المخترعات التي يجب العبرة الاعتبار عنها: { أَوْحَىٰ } وألهم { رَبُّكَ } يا أكمل الرسل { إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } الضعيف المنحول المستحقر إظهاراً لكمال قدرته وحكمته { أَنِ ٱتَّخِذِي } أي: بأن اتخذي - أنثها باعتبار المعنى، وإن كان لفظ النحل مذكراً - { مِنَ } شقوق { ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً } تأوين إليها { وَ } كذا { مِنَ } شقوق { ٱلشَّجَرِ } في الآجام { وَ } كذا { مِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل: 68] ويبنون لك من الأبنية والأماكن، واصنعي فيها بالهام الله إياك بيوتات من الشمعة المتخذة من أنواع الأزهار والنباتات التي لا علم لنا بتعيينها وإحصائها كلها مسدسات، متساويات الأضلاع والزوايا، بحيث لا تفاوت بين أضلاعها وزواياها أصلاً، بحيث عجز عن تصويرها حذّاق المهندسين، فيكف عن تحقيقها وكنهها، تاهت في بيداء ألوهيته أنظار العقل وآراؤه.
{ ثُمَّ } بعدما تم بناؤك { كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } التي ألهمناك أكلها { فَٱسْلُكِي } في اتخاذ العسل منها { سُبُلَ رَبِّكِ } أي: السبل التي ألهمك ربك بسلوكها على وجهها بلا انحراف واعوجاج { ذُلُلاً } مسخرة في حكمه بلا تصرف صدرت عنك.
ثمَّ لما عملتْ على مقتضى ما أوحيت وألهمت { يَخْرُجُ } لكم أيها المكلفون بالإيمان والمعارف { مِن بُطُونِهَا } أي: بطون البيونات { شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أبيض وأسود، وأخضر وأصفر { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } عن الأمراض البلغمية بالأصالة، وعن غيرها بالتبعية { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الإلهام والوحي والخطاب على الزنبور الضعيفة بأوامر عجز عنه فحول العقلاء، الكاملين في القوة النظرية والعلمية، وامتثالها وصنعها على الوجه الأمور بلا فوت شيء منها { لآيَةً } أي: دليلاً واضحاً، وبرهاناً قاطعاً لائحاً على قدرة القادر العليم، والصانع الحكيم الذي ألهمها وأوصاها ما أوصاها { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 69] ويتدبرون في الأمور، ويتعمقون فيها متدبرين في أنيتها؛ كي يصلوا إلى لميتها.
ثمَّ قال سبحانه: { وَٱللَّهُ } القادر المتقدر للإحياء والإماتة { خَلَقَكُمْ } وأظهركم من كتم العدم إظهاراً إبداعياً، وإيحاءً اختراعياً مقدراً مدة معينة لبقائكم في النشأة الأولى { ثُمَّ } بعد انقضاء المدة المقدرة { يَتَوَفَّاكُمْ } أي: يميتكم ويفنيكم { وَمِنكُم مَّن } يقدر لبقائه في هذه النشأة مدة متطاولة، بحيث { يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } وأخسِّه وأسوئه، وإنما يرد بعض التاس إليه { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ } ويفهم { بَعْدَ } تعلق { عِلْمٍ } منه بمعلومٍ مخصوصٍ { شَيْئاً } من أحوال ذلك المعلوم؛ يعني: يرجع إلى مرتبة الطفولية بعد كمال العقل، وإنما رده سبحاه إظهاراً للقدرة الكاملة، وتذكيراً وعبرةً للناس؛ لئلا يطلبوا من الله طول الأعمار، وبُعد الآجال { إِنَّ ٱللَّهَ } المدبر لأمور عباده { عَلِيمٌ } بمصالحهم ومفاسدهم { قَدِيرٌ } [النحل: 70] مقدر مقتدر للأصلح لهم تفضلاً وامتناناً.
{ وَٱللَّهُ } المقدر لمصالحكم أيضاً { فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } بأن قدر للبعض غنى، وللبعض فقراً، وللبعض كفايةً، على حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم في علم الله، ولوح قضائه، وقدر البعث مالكاً للبعض، والبعض مملوكاً له { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ } بسعة الرزق والبسطة من الموالي والملاك { بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ } أي: بعض ما رزقهم الله { عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } من المماليك بأن يقدّر للماليك في قسمة الله رزق، بل { فَهُمْ } أي: المماليك والموالي { فِيهِ } أي: في تقدير الرزق وقسمته { سَوَآءٌ } أي: كما قدّر للمُلاََك قدَّر للماليك أيضاً، غاية ما في الباب: إن الرزق المقدر للمماليك إنما يصل إليهم من يد المولي { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [النحل: 71] ينكرون ويكفرون بإسناد أرزاق المماليك إلى الموالي، لا إلى الله الرزاق لجميع العباد.