ثم قال سبحانه: { عَسَىٰ رَبُّكُمْ } يا بني إسرائيل { أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية، إن تبتم عن معاصيكم وجرائمكم { وَإِنْ عُدتُّمْ } إليها ثالثاً { عُدْنَا } إلى الانتقام والعذاب ثالثاً، وهكذا رابعاً وخامساً، وقد عادوا في النوبة الثالثة بتكذيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصدوا قتله، فأعاد الله عليهم الخزي، بأن سلط المسلمين عليهم، فقتلوهم وأسروهم، وضربوا الجزية على باقيهم، وصاروا مهانين أذلاء صاغرين إلى قيام الساعة، هذا في النشأة الأولى { وَ } في النشأة الأخرى { جَعَلْنَا جَهَنَّمَ } البعد والخذلان، والطرد والحرمان { لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [الإسراء: 8] محبساً ومضيفاً لا ينجون منها أبد الآباد.
ومن أراد نجاة الدارين، وخير النشأتين، فعليه الامتثال والانقياد بما في القرآن المنزل على خير الأنام { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } الفارق بين الهداية والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام { يَِهْدِي } ويرشد { لِلَّتِي } أي: للطريق التي { هِيَ أَقْوَمُ } الطرق وأعدله، وأوضحُ السبل وأبينُه إلى التوحيد المنجي عن ظلمات النشأتين { وَيُبَشِّرُ } أيضاً { ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } المأمورة منه، المقربة إلى التوحيد { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [الإسراء: 9] هو الفوزُ بشرف اللقاء، والتحقق عند سدرة المنتهى.
{ و } يخبر القرآن آيضاَ { أَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } ولم يقصدوا ما فيها من الحساب والعقاب، والصراط والسؤال وجميع ما فيها { أَعْتَدْنَا } وهيأنا { لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الإسراء: 10] مؤلماً محزناً لرؤيتهم المؤمنين متنعمين مترفين في الجنة مترفهين.
{ وَ } من جملة الأخلاق المذمومة، والديدنة القبيحة: { يَدْعُ ٱلإِنْسَانُ } مسرعاً مستعجلاً { بِٱلشَّرِّ } الملحق له من غير علم بشريته، ووخامة عاقبته { دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ } أي: مثل دعائه الخير؛ أي: لسرعته { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } في جِبِلَّته خُلِق { عَجُولاً } [الإسراء: 11] مسرعاً مستعجلاً على ما يميل إليه، وإن كان مضراً له.
{ وَ } من كمال رحمتنا وإشفاقنا { جَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } ذا نورٍ وإضاءةٍ { لِتَبْتَغُواْ } وتطلبوا { فَضْلاً } وعطايا ناشئة { مِّن رَّبِّكُمْ } لتعيشوا بها، وتقوّموا أمزجتكم منها { وَلِتَعْلَمُواْ } بتجدد الملوين { عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } المتداولة بينكم في معاملتكم وجرائتكم وتجارتكم { وَ } بالجملة: في { كُلَّ شَيْءٍ } تحتاجون إليه في أمور معاشكم ومعادكم { فَصَّلْنَاهُ } أي: بيّناه وأوضحناه لكم، وعلّمنا طريق وصولكم ونيلكم إليها { تَفْصِيلاً } [الإسراء: 12] وتبييناً واضحاً لائحاً، فعليكم أن تتخذوني وكيلاً في جميع حوائجكم الدنيوية والأخروية.
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } أي: بعدما رتبنا أمور معاش الإنسان ومعاده على ما ينبغي ويليق بحاله، كتبنا جميع ما صدر عنه من الأعمال الصالحة والفاسدة في مكتوبٍ جامع لها، محيط بها، وعلقناه في عنقه تعليقاً لازماً، شبّه الأعمال بالطائر؛ لأن الإنسان يطير ويميل نحو السعادة والشقاة بما صدر عنه من الأعمال، كأن الأعمال جناح له { وَ } بعد انقضاء النشأة الأولى المعدَّة للاختبار والاعتبار { نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً } جامعاً لجميع ما صدر عنه في دار الابتلاء { يَلْقَاهُ } وينال إليه { مَنْشُوراً } [الإسراء: 13] على رءوس الملأ والأشهاد تكريماً وتعظيماً، أو تفضيحاً وتقريعاً.
وحين إلقائه إليه يُقال له: { ٱقْرَأْ } أيها المكلّف في دار الابتلاء بأنواع التكليفات، والمأمور فيها بامتثال الأوامر، وترك المنهيات { كِتَٰبَكَ } أي: مكتوبك المشتمل على جميع ما صدر عنك؛ إذ { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ } أي: كفى نسك اليوم { عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14] أي: كافياً وشهيداً بلا احتياج لك إلى محاسب آخر.
{ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ } من النشأة الأولى بمتابعة ما أُمر ونُهي { فَإِنَّمَا يَهْتَدي } ويفيد { لِنَفْسِهِ } إذ نفعُ الهداية هو الوصول إلى مرتبة الخلافة والنيابة التي جُبل الإنسان عليها، عائد إلى الموحد نفسه بلا سراية إلى غيره، ألاَّ على وجه الإرشاد والتنبيه { وَ } كذا { مَن ضَلَّ } عن طريق الحق، وانحرف عن مسلك التوحيد بترك المأمورات، وارتكاب المنهيات { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي: إنما لا يعود ويرجع وبال ضلالها إلاَّ على نفسها بلا سرايةٍ إلى غيرها، إلاَّ تسبباً وإضلالاً.
{ وَ } بالجملة: { لاَ تَزِرُ } ولا تحمل نفس { وَازِرَةٌ } آثمة عاصية { وِزْرَ } نفس { أُخْرَىٰ } مثلها، بل كل نفسٍ رهينة ما كسبت، سواء كان خيراً أو شراً { وَ } بعدما قرر سبحانه أن الهداية والضلالة لا تسري إلى الغير، أراد أن يبين سبحانه أن الأخذ على الضلال إنما هو بعد الإرشاد والتنبيه، فقال: { مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ } لأهل الضلال { حَتَّىٰ نَبْعَثَ } ونرسل إليهم { رَسُولاً } [الإسراء: 15] منهم، حين ظهر عليهم علامات الفسوق والعصيان، وأمارات الضلال والطغيان؛ ليبين لهم طريق الهداية، ويرغبهم إليها، ويجنبهم عن الضلال، وينفرهم عنها.
وبعد بعثنا وإرسالنا، إن لم يقبلوا قول الرسل، ولم يمتثلوا بما أُمروا على ألسنتهم، ونُهوا عليها، بل أصروا على ما هم عليه من الضلال، أُخذوا وعُذبوا { وَ } كذلك جرت سنتنا أنَّا { إِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ } ونستأصل { قَرْيَةً } مستحقةً للإهلاك والاستئصال { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أي: متنعميها بالإطاعة والانقياد { فَفَسَقُواْ فِيهَا } وخرجوا عن مقتضى الأمر، ولم يبالوا به { فَحَقَّ } أي: ثبت واستقر { عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } أي: على أهل القرية العذابُ الموعود والمعهود { فَدَمَّرْنَاهَا } وأهلكنا أهلها؛ بسبب فسقهم، وخروجهم عن الإطاعة والامتثال بالمأمور { تَدْمِيراً } [الإسراء: 16] أي: هلاكاً كلياً، واستئصالاً حقيقياً إلى حيث لم يبقَ منهم ومن عمرانهم وزراعتهم شيء.
ليس أمثال هذا الإهلاك ببدعٍ منا، بل { وَكَمْ } أي: كثيراً { أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ } الماضية { مِن بَعْدِ نُوحٍ } كعادٍ وثمود؛ لتعوّهم وعنادهم مع رسول الله { وَ } لا يحتاج لإثبات ضلال أولئك الضالين المضلين إلى شاهدٍ ومبينٍ، بل { كَفَىٰ بِرَبِّكَ } أي: كفى ربك يا أكمل الرسل { بِذُنُوبِ عِبَادِهِ } وخروجهم عن إطاعته وانقياده { خَبِيرَاً } إذ هو عالم بما في سرائرهم وضمائرهم، بل ما في استعداداتهم { بَصِيراً } [الإسراء: 17] بما هو في ظواهرهم وعلنهم.