التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
٩
إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً
١١
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
١٣
وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً
١٤
هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
١٥
وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً
١٦
-الكهف

تفسير الجيلاني

أعَجِبْتَ واستبعدت عن كمال قوتنا وقدرتنا بجعل ما على الأرض صعيداً جرزاً؟ { أَمْ حَسِبْتَ } وشككت { أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ } أي: قصتهم وشأنهم. والكهف هو: الغار الواسع في الجبل. { وَٱلرَّقِيمِ } هو اسم الجبل الذي فيه الغار، أو اسم الوادي الذي فيه، أو اسم قريتهم، أو كلبهم، أو لوحُ رصاصي أو حجريُ، رُقِمَ أو رُقِمت فيه أسماؤهم وجُعل على باب الكهف، أو أصحابُ الرقيم قومُ آخرون على اختلاف الأقوال والروايات.
وبالجملة: { كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا } الدالة على كمال قوتنا وقدرتنا { عَجَباً } [الكهف: 9] أي: آيةً يتعجب منها الناس، ويستبعدون وقوعها مع أنه لا شك في وقوعها؛ إذ بلغت من التواتر حداً لا يتوهم فيها الكذب قطعاً؛ إذ أمثال هذا في جنب قدرتنا الكاملة وقوتنا الشاملة سهلُ يسير.
ولو رفعتَ أيها المعتبر المتأمل الإلْفَ والعادة عن البين، وطرحتَ تكرر المشاهدة والمؤانسة عن العين، لكان ظهور كل ذرةٍ من ذرائر العالم في التعجب والاستعباد وكمال الغرابة البداعة مثل هذا، بل أغرب وأعجب من هذا، فلك أن تراجع وجدانك وتتأمل أمرك وشأنك حتى تجد في نفسك عجائب وغرائب يدهش منها عقلك وينحسر رأيك وفهمك ويكلّ إدراكك، وبالجملة: استغرقتَ في بحر الحيرة والدهشة من نفسك فكيف من غيرك.
أذقنا بلطفك حلاوة مطالعة مبدعاتك ومشاهدة مخترعاتك بنظر العبرة والحضور.
اذكر يا أكمل الرسل قصة أصحاب الكهف وقت { إِذْ أَوَى } أي: التجأ ورجع { ٱلْفِتْيَةُ } الخمسة أو السبعة أو الثمانية من أشراف الروم ورؤسائهم، دعاهم ملكهم دقيانوس إلى الشرك، وهم موحّدون في أفسهم، فأبَوا وهربوا منه { إِلَى ٱلْكَهْفِ } ملتجئين { فَقَالُواْ } مناجين مستغيثين من الله: { رَبَّنَآ } يا من ربَّانا بأنواع اللطف الكرم وفقّنا بشرف توحيدك وتقديسك { آتِنَا } بفظلك وجودك { مِن لَّدُنكَ } لا بسبب أعمالنا ومتقضياتها { رَحْمَةً } تنجينا عن يد عدونا وعذابه، وعن وبال ما دعانا إليه من الكفر والعصيان { وَهَيِّىءْ لَنَا } أسباب معاشنا حين كنا فارّين من العدو وملتجئين إليك، مستعيذين بكنفك وجورك ووفق علينا { مِنْ أَمْرِنَا } الذي نعمل لمرضاتك ولوجهك الكريم { رَشَداً } [الكهف: 10] أي: هدايةً توصلنا إلى زلال توحيدك آمنين فائزين بلا خوفٍ وخطرٍ، فاستجبنا لهم مناجاتهم وأعطيناهم حاجاتههم.
وبعدما دخلوا الكهف ملتجئين بنا متضرعين { فَضَرَبْنَا } وختمنا { عَلَىٰ آذَانِهِمْ } حين كانوا راقدين { فِي ٱلْكَهْفِ } حجاباً غليظاً يمنعهم سماع الأصوات ملطقاً وأنمناهم على هذا الوجه { سِنِينَ عَدَداً } [الكهف: 11] بلا طعامٍ ولا شرابٍ ولا شيءٍ من أسباب المعاش، وهم أحياء في صور الأموات، منقطعين عن لوازم الحياة مطلقاً سوى الأنفاس تجيء وتذهب.
{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } وأيقظناهم من منامهم بعثَ الموتى للحشر { لِنَعْلَمَ } أي: نجرّب ونميّز { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } المختلفين بعدما اختلفوا في مدة لبثهم { أَحْصَىٰ } أي: أضبط وأحفظ { لِمَا لَبِثُواْ } من المدة { أَمَداً } [الكهف: 12] يعني: أيهم أحفظ ضبطاً لمدة رقودهم في الكهف، فكلا الفريقين. أي: اليهود والنصارى. لا يعلمان مدة لبثهم حقااً مطاباً للواقع.
بل: { نَحْنُ نَقُصُّ } من مقا مفضلنا وجودنا { عَلَيْكَ } يا أكمل الرسل { نبَأَهُم } أي: خبرَ مدة لبثهم ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } الثابت الصحيح المطابق للواقع { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } أي: شبّان من أرباب الفتوة والمروءة، وُفقوا من عند الله بالعقل الكامل والرشد التام إلى أن { آمَنُواْ } وأذعنوا { بِرَبِّهِمْ } أي: بتوحيد مربيهم باستعمالهم عقولهم الموهوبة لهم إلى دلائل توحيده { وَزِدْنَاهُمْ } من لدّنا بعدما أخذوا بالتأمل والتدبر في آياتنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال أوصافنا { هُدًى } [الكهف: 13] وزيادةَ رشد تفضلاً وامتناناً.
{ وَ } ثبتناهم في الهداية والتوحيد بأن { رَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } محبة الإيمان والعرفان، واذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ قَامُواْ } بين يدي دقيانوس الظالم الطاغي حين دعاهم إلى الشرك والكفر على رءوس الملأ، وبعدما سمعةا منه دعوته { فَقَالُواْ } بلا مبالاةٍ له ولسطوته وشوكته: { رَبُّنَا } الذي أظهَرَنا من كتم العدم، وأوجَدَنا في فضاء الوجود { رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: هو رب العلويات والسفليات الغيب والشهادة والظاهر والباطن، أوجد الكل بوحدته واستقلاله في التصرف والاستيلاء بلا مشاركةٍ مشيرٍ ومظاهرةِ ظهيرٍ، هو مستحق للألوهية والربوبية { لَن نَّدْعُوَاْ } ونعبد { مِن دُونِهِ إِلـٰهاً } باطلاً؛ ذ لا مستحق لعبادة إلا هو، والله لئن دعوتنا إلهاً سواه { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [الكهف: 14] أي: قولاً ذا بعدٍ عن الحق والتحقيق بمراحل، وصرنا حينئذٍ مغمورين في الشرك والكفر وأنواع الضلال والطغيان، عصمنا الله منها.
ثم قالوا على وجه التعريض والتسفيه: { هَـٰؤُلاۤءِ } الضالون عن منهج الرشاد ومسلك السداد { قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ } من غوايتهم وضلالهم { مِن دُونِهِ } سبجانه { آلِهَةً } باطلةً أي: أصناماً وأوثاناً يعبدونها لعبادة الله { لَّوْلاَ } أي: هلا { يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: بحجةٍ واضحةٍ وبيّنةٍ لائحةٍ ومعجزةٍ باهرةٍ، صادرةٍ من قِبلهم دالةٍ على لياقتهم الألوهية والربوبية، فإن لم يأتوا فهم حينئذ مفترون على الله بإثبات الشريك له { فَمَنْ أَظْلَمُ } وأطغى وأضل { مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية بإثبات الشريك له، سيما أمثال هذه التماثيل العاطلة { كَذِباً } [الكهف: 15] مخالفاً للواقع، بلا مستند عقلي أو نقلي، بل ظلماً وزوراً.
{ َوَ } بعدما جرى بينهم وبين دقيانوس ما جرى، قال بعض الفتية لبعضهم: قد وجب علينا الآن الاعتزال منهم { إِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ } وهجرتموهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } أي: معبوداتهم من الأصنام والأوثان التي يعتقدونها آلهةً شركاءَ مع الله يعبدونها كعبادته { إِلاَّ ٱللَّهَ } الواحد الأحد الحق الحقيق بالعبادة، وأخلصتم العبادة له سبحانه بلا خوفٍ منه ودهشةٍ، كان أولى وأليقَ بحالكم.
وبالجملة: اتفقوا على الاعتزال واختيار الغربة والفرار من بينهم، فاعتزلوهم منهم وخرجوا من أظهرهم { فَأْوُوا } وانصرفوا { إِلَى ٱلْكَهْفِ } المعهود، ملتجئين إلى ربكم من خوف عدوكم، متوكلين عليه في رزقكم ومعاشكم { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم } سبحانه ويبسط عليكم { مِّن } سعة { رَّحْمَتِهِ } وجوده ما تعيشون وتبقون بسبب أن تعلق مشيئته بإبقائكم { وَ } بعدما التجأتم إلى الله، وتوكلتم عليه، مفوضين أمروكم كلها إليه { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ } ويسهل عليكم { مِّنْ أَمْرِكُمْ } الذي اخترتم لرضا الله ورعاية جنابه { مِّرْفَقاً } [الكهف: 16] أي: ما ترفقون وتنتفعون به من اللذات الروحانية يدل ما فوّتم لأنفسكم من اللذات الجسمانية.