التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً
٢١
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً
٢٢
وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً
٢٣
إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً
٢٤
وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً
٢٦
وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
٢٧
-الكهف

تفسير الجيلاني

{ وَ } كما أنمناهم نوماً طويلاً شبيهاً بالموت، ورحمناهم بتقلبٍ من جانبٍ إلى جانبٍ وحفظناهم من حر الشمس وأنواع المؤذيات، وبعثناهم من نومهم بعث الموتى للحشر؛ ليزدادوا بصيرة وثقة على الله { كَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا } وأطعلنا { عَلَيْهِمْ } وعلى من شاهد حالهم، وشهد قصتهم من المؤمنين { لِيَعْلَمُوۤاْ } ويتيقنوا { أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ } القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة لكل ما أراد وشاء { حَقٌّ } ثابتُ لائقُ له أن يُنجزه بلا خلفه { وَ } يتيقنوا خصوصاً { أَنَّ ٱلسَّاعَةَ } الموعودة التي وعدها الحق بألسنة جميع أنبيائه ورسله آتيهُ { لاَ رَيْبَ فِيهَا } وارتفع نزاع الناس فيها، ببعث هؤلاء بعد ثلاثمائة وتسع سنين.
اذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } المتعلق بدينهم في المحشر والمعاد الجسماني؛ إذ القادر على حفظهم ورعايتهم في المدة المذكورة، وبعثِهم بعدها قادرُ على إحياء عموم الموتى من قبورهم وإعادة الروح إلى أجسامهم؛ إذ أمثال هذا سهلُ يسيرُ في جنب قدرة الله وإرادته، وبعدما بعثناهم من مراقدهم وأطلعنا الناس عليهم، فمضوا وتكلموا معهم، وحكوا ما حكوا، وأخبر القوم بمدة رقودهم، واستودعوا مع القوم ورجعوا إلى المراقد فماتوا وانقرضوا، فاختلف الناس في أمرهم، فقال المسلمون: هم منا لأنا موحدون، وقال الكافرون: بل هم منا لكونهم أولاد الكفار.
وبالجلمة: { فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً } قال المسلمون: نحن نبني عليهم مسجداً، وقال الكافكرون نحن نبني عليهم كنسيةً، وكلا الفريقين ليسوا عالمين بكفرهم وإيامنهم، بل { رَّبُّهُمْ } الذي رثاهم بأنواع التربية ورحمهم بأنواع الرحمة { أَعْلَمُ بِهِمْ } وبحالهم فأمرُهم موكولُ إلى الله مفوض إليه، ثم لما تمادى النزاع بينهم وتطاول جدالهم { قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ } بالقدرة الحجة، وهم الموحدون المسلمون { لَنَتَّخِذَنَّ } ونبنين { عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } [الكهف: 21] نتوجه فيه لله، ونتبرك بهم ونجعله محل الحاجات وقضاء المناجاة، فاتخذوه وجعلوه مرجعاً يرجع إليه الأقاصي والأداني.
ثم لما اختلف الخائضون في قصتهم في عددهم، ذكر سبحانه أقوالهم أولاً، ثم بين ما هو أولى وأحق فقال: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ } أي: مصيرهم أربعة { كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ } اي: مصيرهم ستةً { كَلْبُهُمْ } كلا القولين، الأول قول اليهود، والثاني قول النصارى صدر عنهم { رَجْماً } ورمياً { بِٱلْغَيْبِ } إذ لا مستند لهم من التواريخ وقول الرسل { وَيَقُولُونَ } هم { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } أي: مصيِّرهم ثمايةً { كَلْبُهُمْ } والواو وإن كان مقحماً، أفاد توكيد لصوق الصفة بالموصوف وشدة اتصاله به، ليدل على صدقه ومطابقته، ومثله في القرآن كثير، منه قوله تعالى:
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر: 4] وغير ذلك، وهي مثل الواو في قولهم: جاءني زيدُ ، ومعه ثوبُ.
هذا قول المؤمنين أخذوا من رسول الله، وهو من جبريل، وجبرائيل من الله سبحانه، فإن شكوا فيه أيضاً ونسبوه إلى الرّمي والتخمين { قُلاً } لهم يا أكمل الرسل: { رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } إذ لا يعزب عن علمه شيءُ من أحوالهم من أول أمرهم إلى أخره؛ لأن علمه بمعلوماته حضوريُ، لا يغيب عنه أصلاً وهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ } من أحوالهم { إِلاَّ قَلِيلٌ } بالأخبار والتواريخ، وأكثرها غير مطابق للواقع، ولما كان قولهم وعلمهم راجعاً إلى الرجم والرمي بلا مستند { فَلاَ تُمَارِ } ولا تجادل يا أكمل الرسل { فِيهِمْ } أي: في حق الفتية { إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } أي: جدالاً خفيفاً مقتصراً على ما أوحينا إليك، لا متعمقاً غليظاً بأن تُجهلهم وتُسفههم، وتضحك من قولهم، وتنسبه إلى الخرافة الخرق.
{ وَ } أيضاً { لاَ تَسْتَفْتِ } ولا تسأل { فِيهِمْ } أي: في حق الفتية وأمرهم { مِّنْهُمْ } أي: من أهل الكتاب { أَحَداً } [الكهف: 22] يعني: لا ستفتِ أحداً منهم عن قصتهم وشأنهم بعدما ظهر عليك أمرهم بالوحي؛ لأن استفتاءك بعد الوحي، إما سؤالُ تعنتٍ وامتحانٍ، فهو لا يليق بمرتبة الرسالة والنبوة، بعدي عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم اللازمة لمرتبة النبوة، وإما سؤال استعلام واسترشاد، فهم قاصرون عاجزون عنهها، مع أنه لا معنى للسؤال بعد الوحي.
{ وَ } لما أمره اليهود لقريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال تعنتٍ وامتحانٍ عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف، فسألوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ائتُوني غَداً أُخْبِركُمْ عَنْهَا" .
قاله بلا استنثاءٍ وتعليقِ بمشيئتةِ؛ أي: لم يقل: إن شاء الله، فانسد عليه باب الوةحي بضعة عشر يوماً، فشق عليه صلى الله عليه وسلم الأمر، وكذَّبته قريش وتحزّن حزناً شديداًن فنهاه سبحانته نهياً مؤكداً، وأدّبه تأديباً بليغاً؛ لئلا يترك الاستثناء في الأمور أصلاً، فقال: { لاَ تَقُولَنَّ } يا أكمل الرسل ألبتة { لِشَاْىءٍ } عزمتَ عليه وأردتَ أن تفعله { إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ } الشيء { غَداً } [الكهف: 23] على سبيل البيت والمبالغة.
{ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أي: إلا أن تذكرَ وتجيءَ بالاستثناء بعد عزمك بقولك، إن شاء الله، { وَٱذْكُر رَّبَّكَ } يا أكمل الرسل { إِذَا نَسِيتَ } ذكر الاستثناء والتعليق على مشيئة الله في خلال الأمور حين القصد والعزيمة والقول بالإصدار، بعدما تذكرتَ نسيانَك تلافياً لما فُوّتَ وتداركاً لما تركتَ، ولو بعد حينٍ بل سنةٍ، وقل: إن شاء الله متذكراً الأمر الذي تركت التعليق فيه قضاءً لِما فات.
{ وَقُلْ } بعدما كشفنا عليك جواب سؤالهم هذا شكراً له، وابتهاجاً عليه، وطلباً للمزيد منه سبحانه: { عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي } وأرجوا من فضله وجوده أن يرشدني ويدلني { لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } [الكهف: 24] أي: لأمرٍ هو أقربُ دلالةٍ من أمر أصحاب الكهف وقصتهم إلى الهداية والرشاد، وأوضحُ إيصالاً إلى مسلك الصواب والسداد؛ تأديباً لنبوتي وتشييداً لرسالتي، وهو قد هداه وأرشده بأعظمَ من ذلك: كالإخبار عن بعض الغيوب، وقصص الأنبياء المتباعد عهدهم وزمانهم، وأمارات الساعة وأشراطها، وإنزال القرآن المشتمل على الرطب واليابس الحادثة في العالمين، الجارية في النشأتين.
{ وَ } ما اختلف أهل الكتاب في عدد الفتية، اختلفوا أيضاً في مدة لبثهم في الغار راقدين نائمين قال بعضهم: { لَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ } بالسنة الشمسية على ما هو المشهور { وَ } بعضهم { ٱزْدَادُواْ } عليها { تِسْعاً } [الكهف: 25] من تلك السنة أيضاً، وإن كان المراد بالسنة فيه الأولى شمسية والثانية قمرية، كان كلا القولين واحداً؛ لأن التفاوت بينهما في كل مائة عام سنة ثلاث سنين، فيكون الزايدة في ثلاثمائة: تسع سنين قمرية.
{ قُلِ } ي أكمل الرسل بعدما لم يوجد شيءُ يوثَق به ويُعتمد عليه في تعيين مدة لبثهم في الغار سوى التخمين والحسبان { ٱللَّهُ } المطلعُ لجميع السرئر والخفايات { أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي: بمدة لبثهم في كهفهم راقدين؛ إذ { لَهُ } سبحانه لا لغيره من مظاهره وأظلاله { غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: الاطلاع على المغيبات الواقعة في العلويات من غاية انشكافه وانجلائه له أن يقال: { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } كما يجري في مبصراتنا ومسموعاتنا؛ لاستغنائه وتنزهه سبحانه عن الالتفات والإصغاء، بل المغيباتُ والمحسوساتُ كلُّها في حضوره وحضرة علمه على السواء بلا تفاوتٍ أصلاً.
ثم قال سبحاه: { مَا لَهُم } أي: لأهل السماوات والأرض { مِّن دُونِهِ } أي: دون الله { مِن وَلِيٍّ } يوليهم ويلي أمورهم؛ إذ هو مستقلُ بالوجود والتصرف في ملكه وملكوته بلا مظاهرة أحدٍ ومعاونته { وَلاَ يُشْرِكُ } بمقتضى تعززه وكبريائه وسطوته واستيلائه { فِي حُكْمِهِ } السابق في قضائه إجمالاً، واللاحق في قَدْره تفصيلاً { أَحَداً } [الكهف: 26] من مظاهره ومصنوعاته، بل له الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والتخليق والترزيق، وجميعُ ما حدث من الحوادث الجارية في الآفاق كلُّها مستندةُ إليه سبحانه وتعالى أولاً وبالذات، بلا تخلل الوسائل والوسائط العادية الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة بالنسبة إلى أولي الأحلام السخيفة، وذوي الحجب الكثيفة النافية لرؤية الحق انجلائه في المظاهر كلها.
وأما أرباب الوصول والشهود، وهم الذين ارتقوا حجبَ الخيالات وسُدلَ الأوهام والعادات، فلا يَرون في الوجود سواه، ولا إله عندهم إلا هو، لذلك لم سُنسدوا شيئاً من الحوادث الكائنة بمقتضى التجليات والشئون الإلهية إلا له سبحانه؛ إذ ليس وراء الله عندهم مرمىً ومنتهىً.
{ وَ } إذ كان مفاتيحُ المغيبات ومقاليدُ العلوم والإدراكات، وكذا جميعُ ما في العالم من المحسوسات والمشاهدات كلُّها مستندةُ إليه سبحانه، ناشئةُ من عنده { ٱتْلُ } يا أكمل الرسل على من تبعك من المؤمين { مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } على الوجه الذي أُنزل إليك بلا تبديلٍ وتحريفٍ؛ إذ { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } ولا متصرف في كلامه سواه، ولا تسمع قول المشركين:
{ ٱئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ } [يونس: 15] إذ لا يسع لأحدٍ أن يبدله ويحرفه { وَ } إن همتَ إلى تبديله وتحريفه من تلقاء نفسك { لَن تَجِدَ مِن دُونِهِ } سبحانه { مُلْتَحَداً } [الكهف: 27] ملجاً تلتجئ إليه نزول عذاب الله، وحلول أخذه وانتقامه على تبديلك وتغييرك كلامه.
ثم لما طلب صناديد قريش من روسل الله صلى الله عليه وسلم إبعاد فقراء المؤمنين وطردهم عن مجلسه، مثل أبن آم مكتوم وأبي ذر وفقراء أصحابه؛ لرثاثة حالهم وشمول الفاقة عليهم حتى يصاحبوه صلى الله عليه وسلم ويجالسوا معهم، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنجاج ما أرادوا واقترحوا، وأمر بالفقراء ألا يحضروا معهم في مجلسه، ردّ الله سبحانه على رسوله رداً بليغاً، ونهاه عنه نهياً شديداً.