التفاسير

< >
عرض

رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً
٦٥
وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً
٦٦
أَوَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً
٦٧
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً
٦٨
ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً
٦٩
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً
٧٠
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
٧١
ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
٧٢
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
٧٣
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً
٧٤
قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً
٧٥
وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً
٧٦
-مريم

تفسير الجيلاني

وكيف يتصور نسيانه؛ إذ هو { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } لا يعزب ويغيب عن علمه شيء منها لمحةً، وإذ تحققتَ ما تلنا عليك يا أكمل الرسل وتأملتَ في معناه حق التأمل والتدبر { فَٱعْبُدْهُ } راجياً منه العناية على العبادة وجزاء الخير { وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } وتحمل لمتاعبها، واثبت عليها، ولا تستعجل بوحي ما قصدتَ وأحببتَ نزوله، ولا تقنط أيضاً؛ إذ الكل بيده مرهونُ بوقتٍ، ولا تضطرب من استهزاء الكفرة وسخريتهم، وكيف اضطربت { هَلْ تَعْلَمُ } وتسمع { لَهُ سَمِيّاً } [مريم: 65] مثلاً مسمىً بالأله المستحق للتوجه والعبودية لإنجاح المطلوب سواه حتى ترجع إليه، فلكَ العبادة والاصطبار وترك الاضطراب والاستعجال، وتفويض جميع الأمور إلى الكبير المتعال.
{ وَ } من غاية الجهل ونهاية الغفل عن ربوبيته { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ } المجبول على النسيان والكفران بنعم الله وإنكار قدرته على إعادت المعدوم: { أَءِذَا مَا مِتُّ } وصرتُ عظاماً ورفاتاً { لَسَوْفَ أُخْرَجُ } من الأرض { حَيّاً } [مريم: 66] سوياً مُعاداً؟! كلا وحاشا هذا محالٌ باطلٌ، وضلالٌ ظاهرٌ.
{ أَ } ينكر المنكر املطرُّ على قدرتنا، ويصرُّ على الإنكار { وَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ } المكابر المعاند { أَنَّا خَلَقْنَاهُ } وأبدعناه { مِن قَبْلُ وَ } الحالُ أنه { لَمْ يَكُ شَيْئاً } [مريم: 67] أي: مما يطلق عليه الشيء، ولا مسبوقُ بشيءٍ، فقدرنا على إيجاده وإظهاره من العدم الصرْف، ولِمَ لَمْ نقدر على إعادته بعد سبق أجزائه، والإعادةُ والإبداءُ وإن كانا عندنا على السواء، إلا أن الإعادة بالنسبة إلى فهمهم أسهل وأيسر من الإبداء والإبداع لا عن شيءٍ.
{ فَوَرَبِّكَ } الذي هو أعظم الأسماء الإلهية وأشملها وبعزته وجلاله { لَنَحْشُرَنَّهُمْ } أولئك الضالين { وَٱلشَّيَاطِينَ } المضلين لهم معهم، منخرطين في سلسلتهم { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ } مقيدين مغلولين { حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } [مريم: 68] باركين على الركب، قائمين على أطراف الأصابع بلا تمكنٍ لهم واطمئنانٍ مثل الجاني الخائف عند الحاكم القاهر القادر على أنواع الانتقام.
{ ثُمَّ } بعد حشرهم وإحضارهم على النار { لَنَنزِعَنَّ } أي: ننتخبن ونخرجن { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } أي: فرقةٍ شاعت منهم موجبات العذاب والنكال { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ } المفيض لهم أنواعَ الخيرات والبركات { عِتِيّاً } [مريم: 69] جراءةً على العصيان له وعلى ترك أوامره وارتكاب نواهيه، ليطرح أولاً على مقر النار، ثم الأمثل فالأمثل إلى انطراح الكل فيها على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم في موجباتها قوةً وضعفاً.
{ ثُمَّ } بعد انتزاعها وانتخابنا { لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ } وأحق { بِهَا } أي: بدخول النار { صِلِيّاً } [مريم: 70] أي: دخولاً أولياً سابقاً على اكل، وهم الرؤساء الضالون المضلون؛ إذ يضاعف عذابهم لضلالهم وإضلالهم.
ثم قال سبحانه مخاطباً لبني آدم بأجمعهم: لا تغتروا بدنياكم ولذاتها وشهواتها، { وَ } اعلموا { إِن مِّنكُمْ } أي: ما منكم أيها المتلذذون بزخرفة الدنيا { إِلاَّ وَارِدُهَا } أي: ورادُ النار وواقعُها، ذاق كلُ منكم من عذابها مقدارَ ما يتلذذ من الدنيا.
أمَّا المؤمنون المطيعون المتقون الذين يقنعون في الدنيا بسدِّ جوعةٍ ولبسِ خشنٍ وكنٍ ضروري، فيمرون عليها وهي خادمةً عبرة لهم منها وشكراً لنعمه النجاة عنها.
وأمَّا المؤمنون العاصون التائبون، فيذوقون من عذابها مقدار تلذذهم بالمعاصي، ثم يخرجون على مقتضى عدله سبحانه.
وأمَّا أصحاب الكبائر من المؤمنين الخارجين من الدنيا عليها بلا توبةٍ، وعموم الكفرة والمشركين، فه الواردون المقصرون على الورود فيها إلا أن المؤمنين تلحقهم الشفاعة.
وأمَّا الكفرة لهم الخالدون المخلدون لا نجاة لهم منها أصلاً.
ولا تتردوا أيها السامعون ولا تشكّوا في المذكور؛ إذ { كَانَ } ورودكم وعرض النار عليكم من جملة الأحكام المبرمة الإلهية التي وجب { عَلَىٰ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل وجوباً { حَتْماً مَّقْضِيّاً } [مريم: 71] محققاً بلا شبهةٍ و تخلفٍ اوجبها سبحانه على نفسه لِحِكَمٍ ومصالحَ خص سبحانه في سترها ولم يفش على أحدٍ.
{ ثُمَّ } ثم الورود والوصول { نُنَجِّي } ونخلص { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } عن محارمنا في النشأة الأولى اتقاءً من سخطنا وطلباً لمرضاتنا { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا خالدين { فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 72] لا يمكنهم الخروج والتجاوز عنها أصلاً، بل صاروا مزدحمين فيها مضيَّقين معذَّبين بأنواع العذاب أبد الآباد.
{ وَ } كيف لا يخلدون في النار، وهم من كمال غيّهم وضلالهم ونهاية غفلتهم وقسوتهم { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } في نشأة الاختيار { آيَاتُنَا } الدالةُ على تحيدنا وكمالِ قدرتنا على الإنعام والانتقام مع كونها { بَيِّنَٰتٍ } واضحاتٍ في الإعجاز بلا ريبٍ وترددٍ { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بعدما عجزوا عن معارضتها وأفحموا على المقابلة معها، متشبثين بما عندهم من المال و الجاه والثروة والرئاسة، مفتخرين بها قائلين على سبيل التهكم { لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ } أي: أنحن الأغنياء المتلذذون بأنواع اللذات المتمكنون بجميع المرادات والشهوات، أم أنتم أيها الفقراء الضعفاء المحتاجون بما تقتاتون في يومكم هذا؟! { خَيْرٌ مَّقَاماً } أي: مرتبةً ومكاناً عند الله { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [مريم: 73] مجلساً ومنزلاً عنده، ولولا أنا أفضل وأخير منكم عند الله، لما أعطانا ما أعطانا ولما منع عنكم ما منع.
ثم لما افتخروا وتفضلوا على المؤمنين بما عندهم من حطام الدنيا وزخرفتها، ردَّ عليهم وهدَّدهم على الوجه الأبلغ الأتم، فقال على سبيل العبرة: { وَكَمْ } أي: كثيراً { أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } في الأزمنة الماضية { مِّن } أهل { قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ } وأكثر من هؤلاء المفتخرين المعاندين { أَثَاثاً } أي: من جهة الأمتعة الدنيوية، وما يترتب عليها من الجاه والثروة والكبر والخيلاء { وَ } أحسن { رِءْياً } [مريم: 74] أي: زينةً وبهاءً.
ثم لما لم يتذكروا بالآيات والنذر، ولم يتفطنوا منها إلى توحيد الحق وصفائه، ولم يشكروا نِعَمَه، بل أصروا واستكبروا بما عندهم من المزخرفات الفانية، فهلكوا واستؤصلوا { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة: { مَن كَانَ } منغمساً منهمكاً { فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ } مجبولاً عليها { فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } وليمهله { مَدّاً } مهلاً طويلاً، وليمتعهم تمتيعاً كثيراً؛ أي: رغداً واسعاً { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } على ألسنة الرسل والكتب { إِمَّا ٱلعَذَابَ } العاجل لهم في النشأة الأولى بأن غلب المسلمون عليه، فقتلوهم وأسروهم، وضربوا الجزي عليهم مهانين صاغرين { وَإِمَّا } تأتيهم { ٱلسَّاعَةَ } بغتةً { فَسَيَعْلَمُونَ } إذاً بالعيان والمشاهدة { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } ومقاماً عند الله { وَأَضْعَفُ جُنداً } [مريم: 75] أو أقلُّ ناصراً ومعيناً.
{ وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } بعدما صار مَالُ الكفار وبالاً عليهم ومنالُهم نكالاً لهم { } الهادي لعباده المؤمنين { } إلى زلال عرفانه وتوحيده { } هدايةً ورشاداً باقياً أزلاً وأبداً بدل ما نقص عنهم من حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائلة الذاهبة { } المقربة إلى الله، المستتبعة لأنواع الفضل والثواب { } يا أكمل الرسل { } عائدةً وفائدةً { } [مريم: 76] أي: منقلباً ومآباً؛ لأن مآل الأموال والجاه والثروة إلى الحسرة والخسران ومآل العبادات إلى الجنة والغفران.