التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً
٧٧
أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٧٨
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً
٧٩
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً
٨٠
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً
٨١
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً
٨٢
أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً
٨٣
فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً
٨٤
يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً
٨٥
وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً
٨٦
لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٨٧
وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً
٨٨
-مريم

تفسير الجيلاني

ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للكافر المستكبر: { أَفَرَأَيْتَ } أيها الرائي الباغي { ٱلَّذِي كَفَرَ } أنكر وأغرض واستكبر { بِآيَاتِنَا } الدالة على عظمة ذاتنا وكما أوصافنا وأسمائنا { وَقَالَ } مقسماً مبالغاً على سبيل الاستهزاء والسخرية: والله { لأُوتَيَنَّ } وأعطين في النشأة الأخرى أيضاً إن فُرضَ وجودُها { مَالاً وَوَلَداً } [مريم: 77] مثلما أُعطيت في هذه النشأة، هذا من غاية اغتراره ونهاية ذهوله وغفلته واعقاده كبراً وخيلاْ أنه حقيقٌ بهذه المرتبة حيثما كان.
فردَّ الله سبحانه عليه على أبلغ الوجوه وآكده بقوله: { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ } أي: أبدعي هذا الطاغي التائه في تيه الغفلة والجهل علم الغيب واطلاع السرائر { أَمِ ٱتَّخَذَ } واخذ { عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي: من عنده على لسان نبي من أنبيائه أو مَلَكٍ من ملائكته { عَهْداً } [مريم: 78] ليعطيه في الآخرة مالاً وولداً؟! إذ لا معنى للجزم بهذه الدعوى وتأكدها بالحلف إلا بأحدِ هذين الطرفين.
{ كَلاَّ } وحاشا يس لهذا الجاهل الكذاب ولا ذاك ولا هذا، بل { سَنَكْتُبُ } ونأمر الحفظةَ أن يكتبوا { مَا يَقُولُ } هذا المسرف المغرور اغتراراً وجاهه { وَنَمُدُّ لَهُ } ونزيد عليه يوم الجزاء { مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } [مريم: 79] أي: عذاباً فوق العذاب أضعافاً وآلافاً بكفره وإصراره واغتراره على كفره وعتوه على أهل الإيمان واستهزائه إياهم.
{ وَ } بعدما نهلكه ونميته { نَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي: نرث ما يقول ويفتخر به من الأموال والأولاد وغيرها، ونخلعها عه ونجرده؛ بحيث لا يبقى معه شيء منه { وَيَأْتِينَا } يوم العرض والجزاء { فَرْداً } [مريم: 80] صفراً خالياً بلا أهلس ولا مالٍ ولا إيمانٍ ولا عملٍ.
{ وَ } من غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم من حقِّ قدْره وقدْر توحيده واستقلاله واستيلائه { ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً } من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى أهويتهم الفاسدة { لِّيَكُونُواْ } أي: آلهتهم { لَهُمْ عِزّاً } [مريم: 81] أي: بسبب عزهم وتوقيرهم عند الله يشفعون لهم ويخفون عذابهم.
{ كَلاَّ } ردعُ لهم عما اعتقدوا من الفوائد العائدة لهم من عبادة الأوثان والأصنام من الوصلة والشفاعة والتسبب للنجاة، بل { سَيَكْفُرُونَ } وينكرون أولئك المعبودون يومئذ { بِعِبَادَتِهِمْ } أي: بعبادة الكفرة إياهم { وَ } كيف يشفعون لهم حينئذٍ، بل { يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [مريم: 82] يضادون عليهم، ويعادون بل يريدون مقتهم وازياد عذابهم.
ثم لما تعجب صلى الله عليه وسلم من قسوة قلوب الكفرة، وشدة عمههم وسكرتهم في الغفلة، وعدم تفطنهم وتنبههم بحقية آيات التوحيد مع وضوحها وسطوعها، مع أنهم من زمرة العقلاء المجبولين على فطرة المعرفة والإيقان، سيما بعد ظهور الحق وعلو شأنه، وارتفاع قدره برسالته صلى الله عليه سلم، ونزول القرآن له، واختتام أمر البعثة والتشريع به صلى الله عليه وسلم، وهم بعد منكرون.
أشار سبحانه إلى سبب غيِّهم وضلالهم وتماديهم فيها على وجهٍ يزيح تعجبه صلى الله عليه وسلم فقال مخاطباً له: { أَلَمْ تَرَ } يا أكمل الرسل ولم تتفطن { أَنَّآ } بمقتضى اسمنا المذل { أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ } المضلين { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } الذين أردنا إضلالهم وإذلالهم في سابق علمنا ولوح قضائنا وسلطانهم عليهم؛ بحيث { تَؤُزُّهُمْ } أي: تهزهم وتحركهم وتغريهم بتسويلاتهم نحو المعاصي والآثام، وتوقعهم بأنواع الفتن والإجراء، وتحبب عليهم الشهوات واللذات النفسانية المستلزمة المستجبلة لأنواع العقوبات، المبعدة عن المثوبات والفوز بالمرادات { أَزّاً } [مريم: 83] هزاً دائماً؛ بحث صارت قلوبهم المعدة بالفطرة الأصلية للمعرفة والتوحيد مطبوعةً مختومةً بغشاوةٍ عظيمةٍ وغطاءٍ كثيفٍ، لا يُرجى انجلاؤها أصلاً. لذلك لم يتفطنوا بظهور الحق ولوائح آياته ولوامع علاماته، مع كمال وضوحها وانجلائها وتشعشعها.
{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } يا أكمل الرسل بعدما علمتَ حالهم بإهلاكنا إياهم وانتقامنا عنهم، ولا تيأس من إمهالنا وتأخيرنا إهلاكهم أن نهمل عن أخذهم وانتقامهم، بل { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ } بإمهالنا إياهم أياهم آجالهم وأوقاتها { عَدّاً } [مريم: 84] متى وصل وقتها أخذناهم واستأصلناهم، بحيث أمِنت أنت ومن معك من المؤمنين من شرورهم وفسادهم.
اذكر يا أكمل الرسل { يَوْمَ } الحسرة للكافرين؛ إذ { نَحْشُرُ } ونجع فيه { ٱلْمُتَّقِينَ } أي: المؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن المنهيات والمحظورات الواردة في الكتب الإلهية المنزلة على الرسل المبينين لها { إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم:85] وافدين فرقةً بعد فرقةٍ؛ ليجازوا بالرحمة والمغفرة، ويستغرقوا بها جزاء إيمانهم وتقواهم، ويتفضلوا بالضوان تفضلاً عليهم وزيادة كرامة لهم.
{ وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ } يومئذ سَوق البهائم المجرمة الجانية إلى السجن والحبس بالقهر والغضب التام { إِلَىٰ جَهَنَّمَ } التي هي أسوأ الأماكن وأظلمها وأعمقها { وِرْداً } [مريم: 86] ورود البهائم إلى المجلس والأغوار بزجرٍ تامٍ من الضرب المؤلم والتصويب وغيرهما.
وهم في تلك الحالة حيارى مضطربين، لا تنفعهم أعمالهم ولا معبوداتهم الباطلة، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم من النار كما زعموا.
وكيف يشفعون له معبوداتهم؛ إذ هم { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ } لأنفهسم ليخففوا العذاب عنهم متى أرادوا، بل لا شفاعة لهم { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ } وحصل له { عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي: من عنده { عَهْداً } [مريم: 87] إذناً بالشفاعة لمن أراد سبحانه إنقاذه بشفاع ذلك الشفيع كشفاعة بعض الأنبياء لعصاة أممهم، وإن أذن لهم الرحمن المستعان.
{ وَ } كيف يحصل لهؤلاء الهالكين النجاة من نيران الحرمان، والخلاص من سعير الخذلان والخسران، مع جرمهم الذي هو أعظم الجرائم عند الله وأفحشها؛ حيث { قَالُواْ } مفرطين في حق الله من غاية انهماكهم في الغفلة عنه وعن قدْره ورتبته: { ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ } المنزَّهُ عن وصمة الكثر وشين النقصان، المقدش عن سمة الحدوث والإمكان { وَلَداً } [مريم: 88] هو أقوى أمارات الإمكان وعلامات الاستكمال والنقصان.