التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً
٨٩
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً
٩٠
أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً
٩١
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً
٩٢
إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً
٩٣
لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً
٩٤
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً
٩٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً
٩٦
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً
٩٧
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
٩٨
-مريم

تفسير الجيلاني

والله أيها المفترون على الله { لَّقَدْ جِئْتُمْ } بإثبات الولد له سبحانه { شَيْئاً إِدّاً } [مريم: 89] منكراً عظيماً، ومفترىً شنيعاً فظيعاً، إلى حيث { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ } ويتشققن مع متانة قوائمها وشدة التئامها { مِنْهُ } أي: من سماع قولكم هذا ونسبتكم هذه، هولاً ورهبة من صولة قهر الله وسطوة غضبه ونزول عذابه { وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَ } كذا { تَخِرُّ } و تسقط { ٱلْجِبَالُ } خرور خشيةٍ وهولٍ { هَدّاً } [مريم: 90] أي: سقوطاً وأصلاً إلى التفتت والتشتت والاندكاك بالمرة، بحيث اضمحلت رسومها مطلقاً.
كل ذلك من خوف سطوة صفاته الجلالية، ومقتضيات أسمائه القهرية، المنبعثة من الغيرة الإلهية، الناشئة منه سبحانه بواسطة { أَن دَعَوْا } وأثبتوا { لِلرَّحْمَـٰنِ } المقدس المبرئ في ذاته عن لوازم الحدوث والإمكان { وَلَداً } [مريم: 91].
{ وَمَا يَنبَغِي } ويليق { لِلرَّحْمَـٰنِ } المتجلي في كلّ آن وشأن، ولا يشغله شأن عن شأن { أَن يَتَّخِذَ } زوجةً ويتسبب بها ليظهر { وَلَداً } [مريم: 92] يستخلفه ويستظهر به ويستعين منه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
بل { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } من الملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة جمال الله، المستوحشين من سطوة جلاله { وَٱلأَرْضِ } أي: مَن في عالم الطبيعة المتوجهة نحو مبدعها طوعاً { إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ } المهّدِ الممد لهم أضلال أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى، والمفيضِ عليهم من رشحات بحر وجوده، بمقتضى فضله وجوده { عَبْداً } [مريم: 93] متذللاً مقهوراً تحت تصرفه، مصروفاً حسب قدرته وإرادته، محاطاً تحت حيطة حضرة علمه ولوح قضائه.
إلى حيث { لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ } وفصلهم، لا يشذ شيءُ من أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، وجميع حالاتهم حتى اللمحة اللحظة الطرفة والخطرة من حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته واختياره { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } [مريم: 94] أي: فرداً فرداً، وشخصاً شخصاً، مع جميع العوارض من المتعلقة بكل فردٍ وشخصٍ، ما داموا في هذه النشأة، { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } أيضاً { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } [مريم: 95] منفرداً مفروزاً عن الأنصار والأعوان وجمي الأصحاب والخلان.
ثم قال سبحانه: { إِنَّ } المنتخبين المنتجبين { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله وتوحيده، وأطاعوا لرسله والمؤيَّدين من عنده وامتثلوا بجميع ما جاءوا به من الأوامر والنواهي المبيَّنة في الكتب الإلهية المنزَّلة عليهم { وَ } مع ذلك { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } من النوافل المقربة إلى الله طلباً لرضاه وابتغاءً لوجهه { سَيَجْعَلُ } ويحدِث { لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } المتكفل لجزائهم وإثابتهم بمقتضى سعة رحمته وجوده ووفور لطفه { وُدّاً } [مريم: 96] ومحبةً في قلوب جميع المؤمنين حتى يحبوهم، ويتحننوا نحوهم، بلا سبق الوسائل والأسباب العادية الموجبة لمودة البعض للبعض من الإنعام والإحسان وأنواع العطية والإكرام، مع محبة عموهم عباد الله للبدلاء المنسلخين عن مقتضيات لوازم البشرية.
ثم قال سبحانه امتناناً على حبيبه، وإشارةً إلى عظم رتبة القرآن الجامع لجميع المعارف والأحكام، بعدما بيَّن في هذه السورة من معظمات مهما الدين من العبر والتذكيرات والأخلاق والآداب: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } أي: القرآن { بِلِسَانِكَ } وسهلناه وأنزلناه على لغتك { لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ } الذين يحفظون نفوسهم عن مخالفة ما أُمروا به ونُهوا عنه ببشارةٍ عظيمةٍ عنايةً من الله إياهم وفضلاً، وهي تحققهم بمقامم الرضا والفوز بشرف اللقاء { وَتُنْذِرَ بِهِ } أي: بوعيداته وأنواع العذاب المذكورة فيه { قَوْماً لُّدّاً } [مريم: 97] لدوداً لجوجاً، مفرطين في اللدد والعناد، مصرين على ما هم عليه من الفسق والفساد.
{ وَ } لا تبالِ يا أكمل الرسل بتماديهم في لددهم وعنادهم، ولا تحزن من عتوهم وفسادهم؛ إذ { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي: أهلكنا كثيراً من أقوامٍ مضوا، كانوا متمادين أمثلهم في الغي والضلال، مصرين على المراء والجدال.
تأمل والتفت يا أكمل الرسل وتشعر { هَلْ تُحِسُّ } أي: وتشعر { مِنْهُمْ } من المهلكين { مِّنْ أَحَدٍ } نجا، وبقي سالماً من قبضة وسطوة قهرنا وغضبنا { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [مريم: 98] صوتاً خفياً يُسمع من قبورهم ومدافنهم، بل صاروا كأن لم يكونوا أصلاً، وما ذلك وأمثاله علينا بعزيز.
رب اختم عواقب أمورنا بالخير والحسنى.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتدبر المتأمل في الأسماء الحسنى الإلهية، والمستكشفُ عن رموز صفاته الثبوتية والسببية والجمالية والجلالية، واللطفية والقهرية، وجميع الأوصاف المتقابلة والمتماثلة الإلهية، أن تتعمق وتتأمل في معنى اسم الرحمن الذي كرره سبحانه في هذه السورة مراراً كثيرةً، وتدبَّر فيه كي تصل وتستكشف إلى أن مبدأ جميع ما ظهر وبطن، وكان ويكون، وإنما هو هذا الاسم المشير إلى سعة رحمة الحق، ووفور جوده وفضله على مظاهره ومصنوعاته؛ إذ به استوى سبحانه على عروش جميع الكوائن والفواسد، وبه ظهر ما ظهر من كتم العدم.
وبالجملة: ما من موجودٍ محققٍ محسوسٍ أو مقدرٍ مخطورٍ، إلا وهو في حيطة هذا الاسم وتحت تربيته وتصرفه، بحيث لو انقطع إمداده عن العالم طرفةً لم يبقَ للعالم ظهور ووجود أصلاً.
ومتى تحققتَ بهذا الاسم العظيم، ويقنت شموله وإحاطته لجميع المظاهر شمول عطفٍ ولطفٍ، فزتَ بحقيقة قوله سبحانه: { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [مريم: 93].
جعلنا ممن تحقق بمعاني أسمائه الحسنى، واستكشف عن سرائر صفاته الأسنى، بفضله وطَوله، وسعة رحمته وجوده.