{وَ} لذلك أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم إرشاداً لعباده الشاكرين لنعمه عن تقربه إليهم بقولهم: {إِذَا سَأَلَكَ} أيها الداعي للخلق إلى لاحق {عِبَادِي} الشاكرين لنعمه {عَنِّي} بقولهم: أقريب إلينا ربنا فنناجيه مناجاتنا نفوسنا، أم بعيد منا فنناديه نداء الأباعد؟ قل لهم يا أكمل الرسل في جوابهم نيابة عني: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} لهم من نفوسهم بحيث {أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} استقبله سريعاً لإجابة دعائه كما أشار إليه في الحديث القدسي حكاية عنه سبحانه {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} في جميع مهماتهم وحاجاتهم {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} معتقدين بي إيصالهم إلى غاية متمناهم؛ إذ لا مرجع لهم غيري ولا ملجأ لهم في الوجود سواي، وإنما أُخبروا وأمروا بما أُمروا {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] رجاء أن يتهدوا إلى مرتبة التوحيد راشدين مطمئنين.,
اهدنا بلطفك إلى مقر عزك يا هادي المضلين.
ثم أشار سبحانه إلى بيان أحكام الصوم مما يتعلق بالحل والحرمة فيه فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ} أيها الصائمون {لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ} دون نهاره؛ إذ الإمساك عن الجماع في يوم الصوم مأخوذ في تعريفه شرعاً {ٱلرَّفَثُ} الوقاع والجماع {إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ} أي: مع نسائكم اللاتي {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} لا تصبرون عنهن لإفضاء طبعكم، وميل نفوسكم إليهن {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} أيضاً، لا يصبرن عنكم لاشتداد شهوتهن إلى الوقاع بأضعاف ما أنتم عليه، وإنما رخص لكم الوقاع في لياليه؛ إذ {عَلِمَ ٱللَّهُ} المحيط بسرائركم وضمائركم {أَنَّكُمْ كُنتُمْ} لو كلفتم بها {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: توقعونها بأيديكم إلى الخبائث فتعاقبون عليها، وتحرمون جزاء الصوم المتكفل لها الحق بذاته، كما قال صلى الله عليه وسلم حكاية عنه سبحانه: "الصوم لي وأنا أجزي به" .
{وَ} إذا علم سبحانه منكم ما علم {عَفَا} محا {عَنْكُمْ} ما يوقعكم إلى الفتنة والعذاب، وهو تحريم الرفث في الليلة أيضاً، وإذا رخص لكم الوقاع فيها {فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ} أي: ألصقوا بشرتهن لبشرتكم في ليلة الصام المرخصة فيها الجماع، ولا تخافوا من عقوبة الله عليها بعد ما أذن {وَٱبْتَغُواْ} اطلبوا سرائر {مَا كَتَبَ} قدر {ٱللَّهُ لَكُمْ} من الولد الصالح المتفرع على اجتماعكم من نسائكم؛ إذ سر الجماع والنزوع المستلزم له إبقاء نوع الإنسان المصور بصورة الرحمن؛ ليترقى في العبودية والعرفان إلى أن يستخلف وينوب عنه سبحانه {وَكُلُواْ} في ليلة {وَٱشْرَبُواْ} فيها {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ} أي: إلى أن يظهر {لَكُمُ} بلا خفاية {ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ} أي: البياض الممتد الذي يقال له في العرف: الصبح الصادق {مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ} البياض المتوهم قبل الصبح الصادق المعبر عنها بالصبح الكاذب، وكلاهما {مِنَ ٱلْفَجْرِ} الشامل لهما، وهو آخر الليل.
{ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ} من الوقت المبين {إِلَى} ابتداء {ٱلَّليْلِ} وهو غروب الشمس بحيث لا يرى في الأفق الشرقي بياض وحمرة منها {وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ} في ليلة الصيام أيضاً {وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ} معتكفون {فِي ٱلْمَسَٰجِدِ} إذ الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد على نية التقرب، فيبطله الخروج إلا إلى التوضؤ والطهارة، والجماع فيه ليس بمرخصٍ شرعاً {تِلْكَ} الأحكام المذكورة {حُدُودُ ٱللَّهِ} الحاجزة بينه وبينكم؛ لئلا تتجاوزوا عنها {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} إلى حيث يتوهم تجاوزكم عنها {كَذٰلِكَ} كالحدود والأحكام المأمور به والمنهية {يُبَيِّنُ ٱللَّهُ} الهادي إلى وحدة ذاته جميع {ءَايَٰتِهِ} أي: علاماته الدالة على توحيده الذاتي {لِلنَّاسِ} الناسين العهود السابقة بواسطة تعيناتهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] رجاء أن يتخذوا عنها بسبب إشراق نور الوجود الحق المفني لها مطلقاً.