التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
-البقرة

تفسير الجيلاني

{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ } المخصوص بالوحي والإلهمام والإنزال { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } بأنواع الفضائل والكمالات { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } معه، وهو موسى صلوات الله عليه { وَ } منهم من { رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } وهم ما ذكرهم الله سبحانه في كتابه بقوله في مواضع: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم: 57] ورفعناه كذا في وصف أنبيائه فعليك استقصاؤها، { وَآتَيْنَا } من نبيهم { عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } الواضحة الدالة على نبوته { وَ } مع ذلك { أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } المنزه عن رذائل الأغيار مطلقاً، وهو الذات البحث الخالص عن جميع الاعتبارات.
وكم بيَّن فضيلة عيسى عليه السلام، وفضل نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ قال سبحانه في حقه:
{ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [البقرة: 87] وفي شأنه صلى الله عليه وسلم في مقام الامتنان له: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح: 1] أيها المظهر الكامل بذاتها، المقدس عن السوى مطلقاً: { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } [الشرح: 2] أي: هويتك التي بها انفصالك عنا { ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [الشرح: 3] قبل انكشافك بذاتنا، كما أنقض ظهور جميع المخلوقات الباقية وراء الحجاب وبعد ذلك { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 4] أي: إن وصلت إليها ورفعت الاثنينية بنا لذلك قلت: "من أطاعني فقد أطاع الله" ، وقلت أيضاً: "من رآني فقد رأى الحق" وقلنا لك: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح: 10] وغير ذلك من الرموز والإشارات الواردة في القرآن والحديث.
ولم يقدر أحد من الأنبياء أن يتفوه عن الرؤية سوى نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول:
"رأيت ربي في ليلة المعراج" ، لذلك نزل في شأنه: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] وقوله عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشعرة للتوحيد الذاتي، المسقط للإضافات والاعتبارات مطلقاً.
{ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } الهادي للكل هداية جميع الناس { مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ } آمنوا لهم { مِن بَعْدِهِم } خصوصاً { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } الموضحة لهم طريق الرشاد والمستخلفة فهم بين أممهم لإرشادهم، ولكن جرت عادة الله وسنته أن يختلفوا ويقتتلوا بحسب اقتضاء أوصافه المتقابلة لذلك { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ } بنبي بُعث إليهم { وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } هدايتهم { مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ } الفاعل المختار { يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة: 253] لا يُسأل عن فعله، إنه حكيم حميد.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } مقتضى إيمانكم قطع العلائق عما سوى الله الحق خصوصاً عن مزخرفات الدنيا المانعة من الميل الحقيقي { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم } ابتلاءً لكم { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } ولا معاوضة ولا تجارة حتى يحصلوا فيه ما فوتم لأنفسكم { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى تتعاونوا بها وتستظهروا { وَلاَ شَفَاعَةٌ } مقبولة من أحد حتى تستشفعوا منه { وَ } بالجلمة: { ٱلْكَٰفِرُونَ } الساترون هوية الحق بهوياتهم الباطلة، المضيفون نعم الله إليها { هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } [البقرة: 254] المتجاوزون عن حدود الله عناداً واستكباراً المعتقدون أصالتهم في الوجود واستقلالهم في الآثار الصادرة عنهم، مع كونهم هالكين مستهلكين في وجود الحق وهويته إذ: