ثم لما أتى السحرة صافين إلى المجلس على الوجه الذي أمروا {قَالُواْ} من فرط عتوهم واستيلائهم: {يٰمُوسَىٰ} نادوه استحقاراً واستذلالاً {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} أولاً ما تلقيتَ وجئتَ به في مقابلتنا {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ} [طه: 65] ما تلقينا في مقابلتك، فالأمران عندنا سيَّان؛ لأننا عصبة ومعنا جميع هذه الخلائق، وأنت ضعيفُ ليس معك إلا أخوك.
{قَالَ} موسى: لا تضعفوني أيها الحمقى إن معي ربي سيقويني إن شاء، ويغلبني على جميع من في الأرض {بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولاً أيها المغرورين فألقوا {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} التي يسحرون بها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} أي: إلى موسى {مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ} [طه: 66] بذاتها.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ} [طه: 67] أي: أضمر في نفسه خوفاً من غلبتهم عليه.
ثم لما عَلِمنا من موسى خوفه {قُلْنَا} له تشريحاً لصدره وإزالةً لخوفه: {لاَ تَخَفْ} أيها لامرشد من عندنا من تمثالاتهم الغير المطابقة للمواقع {إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ} [طه: 68] أي: الغالب عليهم بعد إلقائك {وَ} بعدما أطمأن قلبك بوحينا لك هذا {أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني: عصاك بالجراءة التامة والقدرة الغالبة بلا جبنٍ وتزلزلٍ {تَلْقَفْ} أي: تبلع وتلتقم {مَا صَنَعُوۤاْ} لمعارضتك {إِنَّمَا} التماثيل التي {صَنَعُواْ} ليس لها اعتباْ بل ما هي إلا {كَيْدُ سَاحِرٍ} وحيلةُ ماكرٍ {وَلاَ يُفْلِحُ} ويَغلِبُ {ٱلسَّاحِرُ} بحيله وسحره {حَيْثُ أَتَىٰ} [طه: 69] أي: في أي مكان أتى به، سواءً كان عند معاونيه أو في مكانٍ آخر.
فألقى موسى عصاه امتثالاً لأمر ربه، فصار ثعباناً فابتلع حبالهم جميعاً مجتمعين {فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ} مجتمعين {سُجَّداً} متذللين نادمين من معارضتهم {قَالُوۤاْ} بلسانهم موافقاً لقلوبهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ} [طه: 70] بأن له القدرة والاختيار لا يعارَض فعله أصلاً، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
{قَالَ} لهم فرعون على سبيل التقريع والتوبيخ بعدما سمع إيمانهم، وتلذللهم عند موسى: {آمَنتُمْ لَهُ} وسلَّمتم سحرَه بلا استئذان مني، بل {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} بتسليمه فظهر عندي {إِنَّهُ} أي: موسى {لَكَبِيرُكُمُ} أي: معلمكم ومقتداتكم {ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ} في خلوتكم معه، فاتفقتم معه حتى تخرجوني من ملكي، فواعزتي وجلالي وعظم شأني لأنتقمن منكم انتقاماً شديداً {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} أولاً {مِّنْ خِلاَفٍ} أي: متبادلين {وَ} بعد ذلك {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ} حتى يعتبر منكم من كان في قلبه بغضي وعداوتي، وإن ىمنتم خوفاً من شدة عذاب ربه ودوامه {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ} [طه: 71] وأدومُ عقاباً، أنا، أم رب موسى؟!.
{قَالُواْ} بعدما كوشفوا بما كوشفوا: {لَن نُّؤْثِرَكَ} ونرجحك يا فرعون {عَلَىٰ مَا جَآءَنَا} ونكشف علينا من الحق الصريح سيَّما بعد ظهور المرجحات {مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ} الواضحات الدالة على إيثاره وترجيحه، مع أنه لا بينة لك سوى ما جئنا به من السحر من قبلك وهو يبطله.
{وَ} بالجملة: كوشفنا الآن بأنه سبحانه هو {ٱلَّذِي فَطَرَنَا} وأوجدنا من كتم العدم بكمال الاستقلال والاختيار فله التصرف فينا ولا نبال بتخويفك وتهديدك يا فرعون الطاغي، وبالجلمة {فَٱقْضِ} أي: امض علينا {مَآ أَنتَ} عليه { قَاضٍ} راضٍ من القطع والصلب وغير ذلك؛ لأنك {إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ} [طه: 72] أي: ما تقضي وتحكم أنت أي حكمٍ تحببت، ما هي إلا في هذه الحياة الفانية المستعارة؛ إذ حكومتك مقوصرة عليها، والدنيا وعذابها فانيةُ حقيرةُ، والآخرة وعقابها باقيةُ عظيمةُ.
لذلك {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا} الذي ربانا بأنواع النعم، فكفرنا له وأشركناك مع تعاليه عن الشريك والكفء والنظير، فالآن ظهر الحق وارتفع الحجب، فرجعنا إليه واستغفرنا منه من ذنوبنا {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ} خصوصاً {مَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ} بمعارضة المعجزة {وَ} بعد رجوعنا إليه تحقق عندنا أنه؛ أي: {ٱللَّهُ خَيْرٌ} منك ومن كل ما سواه {وَأَبْقَىٰ} [طه: 73] أي: بعد فناء الكل.
وقد تحقق عندنا أيضاً {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ} القادر على الانتقام والإنعام {مُجْرِماً} مشركاً طاغياً {فَإِنَّ} أي: حقَّ وثبتَ {لَهُ جَهَنَّمَ} التي هي دار البعد والخذلان أبداً {لاَ يَمُوتُ فِيهَا} حتى يستريح {وَلاَ يَحْيَىٰ} [طه: 74] أيضاً حياةً يستفيد بها.
وثانياً إنه {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً} موقناً بذاته وصفاته وأفعاله، ومع ذلك {قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ} بمقتضى أوامره {فَأُوْلَـٰئِكَ} المؤمنون الصالحون {لَهُمُ} لا لغيرهم من الصالحين {ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ} [طه: 75] القريبة إلى الدرجة العليا التي انتهت إليها جميع الدرجات، وهي {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ} أي: أنهار المعارف والحقائق لأولي البصائر والأبصار الناظرين بعيون الاعتبار المستغرقين بمطالعة جمال الله بلا مزاحمة الأغيار {خَالِدِينَ فِيهَا} بلا ملاحظة زمانٍ ومقدارٍ {وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ} [طه: 76] من ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار.