وبعدما قذف الكل حليهم فيها، أدخل السامري يده فيها { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } منها { عِجْلاً } أي: صورة عجل أوجده الله تعالى من تلك الحلي المقذوفة، ولم يكن من ذوي الحس والحركة بل { جَسَداً } وهيكلاً { لَّهُ خُوَارٌ } بصوّت صوتَ البقرة { فَقَالُواْ } السامري أصالة والباقي تعباً: { هَـٰذَآ } الجسد الذي خار خورة { إِلَـٰهُكُمْ } الذين أوجدكم من العدم { وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ } المتردد في بيدان طلبه، أنزله في هذه الحفرة من قبل { فَنَسِيَ } [طه: 88] منزلة وسعى في طلبه سعياً بليغاً، فرقى الطور لهذا الطلب.
{ أَ } هم خرجوا عن طور العقل في اعتقاد إلهية الجماد، بل عن الحس أيضاً { فَلاَ يَرَوْنَ } ولا يتفكرون في شأن هذا الجماد { أَلاَّ يَرْجِعُ } أي: أنه لا يرد { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } جواباً عن سؤالهم { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً } لو لم يؤمنوا به { وَلاَ نَفْعاً } [طه: 89] لو آمنوا به.
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ } أي: قبل رجوع موسى إليهم نيابة عنه إصلاحاً لحالهم، بعدما أفسدوا على أنفسهم ما أمرهم موسى من الأصلاح بحالهم: { يٰقَوْمِ } المائلين عن طريق الحق بسبب هذه الصورة { إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } أي: ما هذا إلا ابتلاءُ لهم من ربكم؛ ليختبر سبحانه رسوخكم وتمكنكم على التوحيد، أعرِضوا عن الشرك بالهل وتوجهوا إليه { وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } لكم بإرسال أخي إليكم رسولاً وإنجائكم من عدوكم، وأنا نائب عن أخي استخلفني عليكم { فَٱتَّبِعُونِي } لتتبعوا الحق، ولا تميلوا إلى الباطل { وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِي } [طه: 90] واقبلا قولي وإرشادي لكم حتى يصلح حالكم.
{ قَالُواْ } لأنك وإن كنت نائباً عن أخيك، لكن لا تعرف الرب ولا تكلمتَ معه، بل يعرفه ويتكلم معه مومسى { لَن نَّبْرَحَ } ونزال { عَلَيْهِ } أي: على الجسد { عَاكِفِينَ } مقيمين حوله متوجهين له متضرعين عنده { حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ } [طه: 91].
ثم لما رجع موسى من مقياته ومناجاته مع ربه إلى قومه، ووجد9م ضالين منحرفين عن مسلك السداد، صار غضباناً عليهم أسفاً بضلالهم.
{ قَالَ } من شدة غيظه لأخيه منادياً باسمه على سبيل الاستحقار مع أنه أكبر منه { يٰهَرُونُ مَا مَنَعَكَ } أي: أي: شيء منعك عن القتال معهم وقت { إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ } [طه: 92] عن طريق الحق وتوحيده، بعبادة العجل.
وما لحقك { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } في مقاتلة المشركين بعدما أوصيتك به مراراً، وقد أقمتك فيهم لإصلاح حالهم { أَ } كفرت وضللت أنتَ أيضاً { فَعَصَيْتَ أَمْرِي } [طه: 93] فأخذ من كمال غيظه وغضبه بشرع أخيه ولحيته يجره.
{ قَالَ } له حينئذ هارون قولاً يحرك مقتضى الأخوة، وينبه على قبول العذر: { يَبْنَؤُمَّ } نسبه إلى الأم استعطافاً: احذر عن الغضب وتوجه إليَّ واسمع عذري { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } ما لم تسمع عذري، لم أترك قتالهم { إِنِّي } وإن كنت لا أقدر على قتالهم لكثرتهم { خَشِيتُ } مع ذلك إن قاتلت معهم { أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيۤ إِسْرَآءِيلَ } أي: جعلتهم فرقاً متخالفة متقابلة { وَلَمْ تَرْقُبْ } ولم تحفظ { قَوْلِي } [طه: 94] لك: اخلفني في قومي، وأصلح بينهم حتى أرجع.
فلما سمع موسى عذره، ندم على فعله، فرجع إلى معاتبة من يضلهم و{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ } أي: أي شيء هو أعظم مقصودك من هذه التفرقة والإضلال { يٰسَامِرِيُّ } [طه: 95] المضل.
{ قَالَ } مقصودي الرئاسة عليهم بشيء يميزني عنهم من الخوارق؛ إذ { بَصُرْتُ بِمَا } أي: بشيء { لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أصلاً، وذلك أني رأيت جبريل راكباً على فرس الحياة، ما وضع قدمه على شيء إلا حيي { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ } أي: من تراب وطئها حافر فرس الرسول الذي هو جبريل، وكنت أحفظها إلى أن أذابوا حليهم { فَنَبَذْتُهَا } فيه، فسرى الحياة منها إلى الصورة المتخذة من الحلي فخار، فأمرتهم باتخاذها إلهاً { وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ } وزينت { لِي نَفْسِي } [طه: 96] حتى أكون متبوعاً لهم، ومقتدى بينهم.
{ قَالَ } له موسى: { فَٱذْهَبْ } من عندي وتنح عن مرآي { فَإِنَّ لَكَ } أي: حقَّ وثبت لك { فِي ٱلْحَيَاةِ } أي: في حين حياتك { أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } لك ولا إدراك، يعني: أنك في حال حياتك من مرة الأموات الفاقدين للحواس والإدراك وجميع المشاعر، لاعتقادك بحياة هذا الجماد، وأخذته إليهاً، وأضللتَ بسبب هذا جمعاً عظيماً من الناس { وَإِنَّ لَكَ } أي: ثبتَ وتهيأ لك في الآخرة { مَوْعِداً } من الجحيم { لَّن تُخْلَفَهُ } أي: لن تنتقل عنه أصلاً؛ إذ لا توبة لك منها حتى تتجاوز عنه، فتعين كذلك فيه أبد الآبدين { وَ } إذا عرفتَ حالك في دنياك وأخراك { ٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ } وعلى عبادته { عَاكِفاً } مقيماً عازماً { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } بالنار، وإن كان إلهاً، لم ترحقه النار، ثم بعد الإحراق وبعد صيرورته رماداً { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ } وننشرنه { فِي ٱلْيَمِّ } أي: في البحر { نَسْفاً } [طه: 97] نشراً؛ بحيث لم يبقَ من أجزائه في البر شيء.
فأحرقها ونسفها وتوجه إلى بني إسرائيل، فقال: { إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ } المستجمع جميع أوصاف الكمال هو { ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ } أي: لا موجود { إِلاَّ هُوَ } وما سواه عدمُ، ولو تعقل فلا يخرج عن حضرة علمه شيء؛ لأنه { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ } في الذهن والخارج { عِلْماً } [طه: 98].