التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
٨٢
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ
٨٤
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ
٨٥
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٦
وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
-الأنبياء

تفسير الجيلاني

{ وَ } كذا سخرنا لسليمان { مِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ } البحار، ويخرجون منها نفائس الجواهر تتميماً وتوفيراً بخزانته { وَيَعْمَلُونَ } أيضاً { عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ } الغوص من بناء الأبنية الرفعية، والقصور المنيعة، واختراع الصنائع البديعة الغريبة والهياكل البديعة والتشكيلات العجيبة { وَكُنَّا لَهُمْ } من قبل سليمان { حَافِظِينَ } [الأنبياء: 82] مشغلين مشرفين إياهم، لا يمكنهم أن يفسدوا في أعمالهم وأشغالهم ويزيغوها على مقتضى أهويتهم وطباعهم.
{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل أخاك { أَيُّوبَ } الذي ابتلاه الله بأنواع المحن والبلاء، فصبر عليها فازداد ألمه، واشتد الأمر عليه واضطر إلى التضرع والتفزع، وبثِّ الشكوى إلى الله، اذكر { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } مشتكياً إليه، مناجياً له، متضرعاً إياه قائلاً { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } يا رب، وتنحّوا عني أقاربي وذوو أرحامي وجميع رحمائي { وَأَنتَ } تبقى عليّ رحيماً مشفقاً؛ لأنك { أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } [الأنبياء: 83] فأدركني بلطفك؛ إذ لا طاقة لي ولا صبر بعد اليوم، وقد بلغ الجهد غياته.
{ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } دعاءه { فَكَشَفْنَا } عنه { مَا بِهِ مِن ضُرٍّ } مؤلم مزعج { وَ } بعدما شفيناه وأزلنا عنه مرضه { آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ } وأحيينا الذين هلكوا بسقوط البيت عليهم، وأمواله التي تلفت بالحوادث والنوائب { وَ } زدناها امتناناً له وتفضلاً عليه { مِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } إياه وزيادة إنعامٍ وإحسان منَّا عليه { وَ } ليكون ما فضلنا به وأعطيناه { ذِكْرَىٰ } تذكرة وحثاً { لِلْعَابِدِينَ } [الأنبياء: 84] الذين صبروا على مشاق التكاليف، ومتاعب الطاعات والعبادات؛ ليفوزوا بأفضل المثوبات، وأعظم الكرامات.
{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل جدك { إِسْمَاعِيلَ } ذا الصبر والرضا بما جرى عليه من القضايا { وَإِدْرِيسَ } صاحب دراسة الحكمة المتقنة وأنواع المعارف والحقائق { وَذَا ٱلْكِفْلِ } المتكفل بعبادة الله في جميع أوقاته وحالاته، حيث لا يشغله شيء عن التوجه نحو الحق، قيل: هو إلياس، وقيل: زكريا، وقيل يوشع بن نون، وقيل: نبيُ آخر مسمى به؛ لأنه يتكفل صيام أيام حياته { كُلٌّ } من هؤلاء السعداء المقبولين عند الله المقبولين { مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ } [الأنبياء: 85] لقضاء الله، ونزول بلائه، كما أنهم كانوا شاكرين لآلائه ونعمائه.
{ وَ } لذلك { أَدْخَلْنَاهُمْ فِي } سعة { رَحْمَتِنَا } امتناناً عليهم { إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الأنبياء: 86] المصلحين أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم وأحوالهم، الواصلين إلى درجة القرب واليقين. { وَ } اذكر يا أكمل الرسل أخاك { ذَا ٱلنُّونِ } صاحب الحوت، وهو يونس بن متى، واذكر قصته وقت { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } على قومه من أعمالهم حين وعظهم، فلم يتعظوا، فشق عليه الأمر، فغضب عليهم، فلم يكظم غيظه، فخرج من بينهم تفريجاً لغضبه، وتوسيعاً لصدره { فَظَنَّ } بخروجه من بينهم { أَن لَّن نَّقْدِرَ } وتضيّق { عَلَيْهِ } ولا يمكننا حبسه وتضييقه وتغميمه في مكان آخر فهرب، ولقي البحر فركب على السفينة فسكنت الريح، فقال البحَّارون: إن ها هنا عبداً آبقاً، فاقترعوا، فخرجت القرعة باسمه فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت { فَنَادَىٰ } وناجى ضريعاً فجيعاً مغموراً { فِي ٱلظُّلُمَاتِ } التي تراكمت عليه؛ إذ هو في بطن الحوت وكان الليل مظلماً { أَن } أي: أنه { لاَّ إِلَـٰهَ } بعيد بالحق، ويستحق للعبادة استحقاقاً ذاتياً ووصفياً { إِلاَّ أَنتَ } يا من خضعتُ لك الرقاب، وانتكستْ دون سرادقات جلالك أعناق أولي النهى والألباب { سُبْحَانَكَ } ربي أنزهك عن جميع ما لا يليق بجنابك، ولا يليق لشأنك { إِنِّي } بواسطة خروجي عن قومي بغير إذنك ووحيك، مع أنك أرسلتني إليهم، وبعثتني بين أظهرهم نبيّاً ذا دعوة وهداية { كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] الخارجين عن مقتضى حكمك وأمرك، لذلك ضيقتَ الأمر عليّ يا ربي، وحبستني ولا مخلص لي من هذا المضيق إلا عفوك وكرمك.
وبعدما تاب إلينا، وتوجه نحونا مخلصاً متضرعاً، واستخلص منا مضطرباً مضطراً { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } وأجبنا دعاءه فأخرجناه من بطن الحوت { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ } العظيم والكرب الكبير { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي } عموم { ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 88] المخلصين الذين أخلصوا في إنابتهم ورجوعهم نحوننا من كروبهم وأحزانهم.