التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
١٤
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
١٥
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
١٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١٧
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
١٨
-الحج

تفسير الجيلاني

ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد: { إِنَّ ٱللَّهَ } الهادي لعباده إلى دار السلام { يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي: سيقوا بالإيمان بالله، وتصدق رسله وكتبه { وَ } مع ذلك { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } التي أمرهم سبحانه في كتبه وأجراهم على ألسنة رسله بالإتيان والامتثال بها، واجتبوا عن النوهي التي نهاهم سبحانه عنها { جَنَاتٍ } متنزهات من العلم والعين والحق { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي: المعارف والحقائق الجزئية المتجددة بتجددات الأمثال، وهي الرموز والإرشادات التي يتفطن بها العارف من ظواهر المظاهر المرتبطة بالشؤون والتجليات الإلهية وبالجملة { إِنَّ ٱللَّهَ } الموفق لخواص عباده { يَفْعَلُ } معهم { مَا يُرِيدُ } [الحج: 14] من الصلاح والفوز بالنجاح، والتحقق بمقام الرضا وشرف اللقاء.
ثم لما اعتقد المشركون من في قلبه عداوة راسخة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشيكمةُ شديدة، وغيظُ مفرط ألاَّ نصرَ ولا إعانة له من عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة كما زعمه ردَّ الله عليهم نصراً له وترويجاً لقوله، فقال: { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ } ولن يعين رسوله صلى الله عليه وسلم لا { فِي ٱلدُّنْيَا } ولا في { وَٱلآخِرَةِ } بل ما ادعاه من نصر الله إياه في الدنيا والآخرة، إنما هو لإثبات دعوه وترويج مدعاه، وإلا فلا نصر له ولا ناصر، يقال للمنكر: إن شئت إزالة غيظك وحسدك عنه صلى الله عليه وسلم { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } أي: بحبل { إِلَى ٱلسَّمَآءِ } أي: نحوها وارتفع معلقاً بالحبل إلى أن يتباعد من الأرض مسافة بعيدة { ثُمَّ } يقال له بعدما ارتفع من الأرض: { لْيَقْطَعْ } الحبل وانفصل عنه، فقطع فوقع { فَلْيَنْظُرْ } بعدما وقع { هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } مكره وحيلته { مَا يَغِيظُ } [الحج: 15] أي: غيظه برسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم.
وباجملة ما يزول إنكار المنكرين، وغيظ المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الحيلة والكيد.
{ وَكَذٰلِكَ } أي: مثلما نصرناه صلى الله عليه وسلم في وقائع كثيرة { أَنزَلْنَاهُ } أيضاً لتأييده ونصره { آيَاتٍ } أي: دلائل { بَيِّنَاتٍ } واضحات دالة على صدقة في دعواه النبوة والرسالة والتشريع العام والإرشاد التام { وَ } أنزلناه أيضاً على سبيل العظة والتعليم { أَنَّ ٱللَّهَ } الهادي للعباد، الموفق لهم إلى سبيل الرشاد { يَهْدِي } بعدما بينتَ لهم طريق الهداية والسداد بوحي الله إياك يا أكمل الرسل { مَن يُرِيدُ } [الحج: 16] ويتعلق إرادته ومشئته سبحانه لهدايته ورشاده، ومن يتعلق بضلاله أضله.
وبالجملة ما عليك إلا البلاغ، وعلى الله الهداية والرشاد، فلا تتعب نفسك في هداية من أحببت،
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56] بل أمر الهداية والضلال إنما هو مفوض إلى الكبير المتعال.
لذلك قال سبحانه: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم الهادي للناس إلى توحيد الذات، والصفات، والأفعال جميعاً { وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } وهم الذين آمنوا بموسى عليه السلام الهادي لأمته إلى توحيد الصفات { وَٱلصَّابِئِينَ } الذين يدَّعون الاطلاع على سرائر الكواكب والأجرام العلوية { وَٱلنَّصَارَىٰ } وهم الذين يصدقون بعيسى عليه السلام الهادي لأمته إلى توحيد الأفعال { وَٱلْمَجُوسَ } الذين يدَّعون التمييز بين فاعل الخير وفاعل الشر { وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ } بالله المنزه عن الشريك، كلُ من هؤلاء المذكورين يدعي الحقية لنفسه، والباطل لغيره { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لسرائرهم وضمائرهم { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } أي: بين من هو المحق منهم والمبطل { يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } وكيف لا يميز ويفصل سبحانه { إِنَّ ٱللَّهَ } المتجلي في الآفاق والأنفس { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج: 17] أي: حاضرُ مع كل شيء رقيب عليه، غير مغيب عنه أصلاً.
{ أَلَمْ تَرَ } أيها الرائي ولم تعلم { أَنَّ ٱللَّهَ } المظهر لجميع المظاهر { يَسْجُدُ } أي: يذلل ويخضع { لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } من العلويات { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } من السفليات وخصوصاً معظمات الأجرام العلوية وهي { وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ } ومعظمات الأجسام من السلفيات { وَ } هي { ٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَ } يسجد له أيضاً طوعاً { كَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ } المجبولين على فطرة التوحيد، المخلوقين على استعداد الإيمان، وقابلية المعرفة والإيقان { وَكَثِيرٌ } منهم لانحرافهم عن الفطرة الأصلية بتقليد آبائهم ومعلميهم الذين يضلونهم عن سواء السبيل لذلك { حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } وثبت له العقاب في لوح القضاء وحضرة العلم { وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ } وأسقط رتبته وحط درجته { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } معلٍّ رافع { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم { يَفْعَلُ } معهم { مَا يَشَآءُ } [الحج: 18] على مقتضى علمه وخبرته.
ثم لما تطاول نزاع اليهود مع المؤمنين وتمادى جدالهم وخصومتهم حيث قال اليهود: نحن أحق بالله منكم لتقدم ديننا، وشرف نبينا، وفضل كتابنا، وقال المؤمنون: نحن أحق منكم؛ لأن ديننا ناسخ جميع الأديان، ونبينا خاتم دائرة النبوة والرسالة، ومتمم مكارم الأخلاق، وكتابنا الجامع لما في الكتب السالفة الناسخة لبعض أحكامها أفضل من سائر الكتب، ونحن أيضاً لا ننكر نبياً من الأنبياء، وكتاباً من الكتب، وأنتم أنكرتم عيسى عليه السلام ودينه وكتابه وديننا ونبينا وكتابنا، مع أنه مذكورُ في كتابكم، وأنتم تعلمون حقيته وتنكرونه عناداً.