التفاسير

< >
عرض

ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٥٦
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيٰتِنَا فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٥٧
وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٥٨
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
٥٩
ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٦٠
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
٦١
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ٱلْبَاطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٦٢
-الحج

تفسير الجيلاني

إذ { ٱلْمُلْكُ } والتصرف { يَوْمَئِذٍ } أي: بعد انقضاء دار الابتلاء والاختبار { للَّهِ } المستقل بالألوهية والربوبية والتصرف مطلقاً، وإن كان في النشأة الأولى أيضاً كذلك، إلا أنه سبحانه أقدرهم على الإطاعة والانقياد، كما أقدرهم على الإنكار والعناد لِحِكَم مصالح؛ إذ هي دار الفتن والابتلاء والاختيار، وبعد انقضائها لا يقبل منه جبرُ ما فوتوا على نفوسهم في تلك النشأة بل { يَحْكُمُ } سبحانه بحكمه المبرم { بَيْنَهُمْ } على مقتضى علم نهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله على جه الإخلاص والإخبات { وَ } مع ذلك { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المترتبة على الإيمان واليقينن هم في النشأة الأخرى { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } [الحج: 56] دائمين يها مقيمين، لا يتحولون إلى ما هوأدنى، بل يترقونه إلى الأعلى حتى يفوزوا بشرف اللقاء.
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله فيها { وَكَذَّبُواْ بِآيٰتِنَا } المنزلة على رسلنا لبيان توحيدنا { فَأُوْلَـٰئِكَ } الأشقياء المذبون المردودون { لَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ مُّهِينٌ } [الحج: 57] لإهانتهم أنبياء الله ورسله، وما نزل عليهم من الآيات.
ثم قال سبحانه: { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } وتركموا مضيق الإمكان ساكنين { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } طالبين فضاءً به الوجوب والفناء فيه { ثُمَّ قُتِلُوۤاْ } على يد الغفلة الجهلة عن توحيد الله واستقلاله في الوجود { أَوْ مَاتُواْ } بالموت الاضطراري حتف أنوفهم بعدما خرجوا عن مقتضيات الحياة الصورية بالموت الإرادي { لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ } المنعم المفضل { رِزْقاً حَسَناً } حقيقاً من لدنه تفضيلاً عليهم وامتناناً، وكيف لا يرزقهم مع أهم أولياؤه وهو رازق لأعدائه أيضاً؟ { وَإِنَّ ٱللَّهَ } المتجلي في الآفاق، المتكفل لأرزاق من عليها وما عليها { لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [الحج: 58] ممن نسب إليهم مجازاً، إذ مرجع الكل إليه، ومبدؤه منه وتوفيقهم بيده، وهم تحت ظله، وفعلهم حقيقةً منسوب إليه.
وبعدما رزقهم الله بالرزق المعنوي بدل ما جاهدوا في سبيله من تحمل المشاق والمتاعب في الانقطاع عن مألوفات بقعة الإمكان ومطبوعات نفوسهم وهوياتهم من اللذات والشهوات البهيمية.
{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ } سبحانه بفضله وسعة جوده { مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } أي: مسكناً ومقاماً يرضون منه نفوسهم بدل ما يتركون من البقاع والديار والقصور المشيدة المرتفعة ألا وهي المكاشفات والمشاهدات الواردة عليهم من الاطلاع على سرائر الأسماء والصفات الإلهية، والواردات الغيبية من عالم اللاهوت { وَإِنَّ ٱللَّهَ } المدبر لأمور عباده { لَعَلِيمٌ } بمصالحهم وما يستدعي استعداداتهم { حَلِيمٌ } [الحج: 59] يفعل معهم ما يرضى به استعداداتهم ويسع له قابلياتهم.
{ ذٰلِكَ } أي: الأمر والشأن ذلك المذكور لمن هاجر إلى الله طالباً لقياه، خالصاً لوجهه الكريم { وَمَنْ عَاقَبَ } ظالمه يوماً غلب عليه، وأراد أن ينتقم عنه { بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } أي: بمقدار ظلمه بلا زيادة عليه ولا نقصان { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ } أي: غلب الظالم على المظلوم المنتقم كرة أخرى، وأراد أن يظلم عليه ثانياً { لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ } العزيز المنتقم في الكرّة الثانية أيضاً ما لم يتجاوز عن حد الانتقام، ولا ينظر سبحانه إلى اجترائه إلى الانتقام، ويتركه ما هو الأولى وهو العفو عند القدرة، وكظم الغيظ لدى الفرصة { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لمقتضيات استعداد عباده { لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [الحج: 60] لما صدر عنهم من المبادرة إلى الانتقام لدى القدرة.
{ ذٰلِكَ } النصر على من ظُلم { بِأَنَّ ٱللَّهَ } أي: بسبب أن الله المستوي على القسط القويم { يُولِجُ } ويدخل { ٱللَّيْلَ } المظلم { فِي ٱلنَّهَارِ } المضيء { وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ } المضيء { فِي ٱللَّيْلِ } المظلم على التدريج ليعتدلا ويعتدل من ظهر وما ظهر كرهما وتجددهما { وَأَنَّ ٱللَّهَ } المدبر لمصالح مظاهره بالحكمة المتقنة { سَمِيعٌ } سمع ما هو من قبيل المسموعات من الوقائع التي أدركها السمع { بَصِيرٌ } [الحج: 61] يبصر ما هو من قبيل املبصرات من الحوادث المدركة بالبصر.
{ ذٰلِكَ } أي: سمعه للمسموعات وإبصاره للمبصرات { بِأَنَّ ٱللَّهَ } المتجلي في الآفاق { هُوَ ٱلْحَقُّ } المقصور على التحقق والثبوت بالاستحقاق الواجب وجوده بلا ارتياب الممتنع نظيره على الإطلاق { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } أيها المشركون { مِن دُونِهِ } من الآلهة الباطلة { هُوَ ٱلْبَاطِلُ } المصور على العدم والبطلان، لا وجود لهم فيكف ألوهيتهم، والإله لا بدَّ وأن يكون واجب الوجود، ثم ما يترتب عليه من الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية فهم معزولون عن الوجود، ثم ما يترتب عليه من الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية فهم معزولون عن الوجود، فكيف عن لوازمها { وَ } اعلموا { أَنَّ ٱللَّهَ } المتردي برداء العظمة والكبرياء، المتعزز بالمجد والبهاء، المتوحد بالقيومية والبقاء الأبدي { هُوَ ٱلْعَلِيُّ } بذاته المتعالي على أن يصفه ألسنة العقلاء، ويعرب عنه أفهام العرفاء { ٱلْكَبِيرُ } [الحج: 62] المتكبر في شأنه جل جلاله عن أن يحيط به وبأوصافه وأسمائه شيء من مظاهره ومصنوعاته.