{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } المنهمكون في الغفلة والنسيان المنغمسون بلوازم الحدوث والإمكان، المفضية إلى أنواع العصيان والطغيان { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ } شك وتردد { مِّنَ } أمر { ٱلْبَعْثِ } وإمكان وقوعه، ومن قدرتنا إلى إعادة المعدوم بلا سبق الهيولى والزمان، حتى يزول ريبكم، ويرتفع شككم { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ } وقدرنا وجودكم أولاً { مِّن تُرَابٍ } جماد، لا مناسبة بينكم وبينه أصلاً، إذ هو أصل النطفة ومادة المنيّ، إذ المنيّ إنما يحصل من الأغذية المتكونة من التراب { ثُمَّ } قدرناكم ثانياً { مِن نُّطْفَةٍ } مصبوبة في الأرحام حاصلة في أجزاء الغذاء { ثُمَّ } صورناكم { مِنْ عَلَقَةٍ } أي: دمٍ منعقد من المنيّ المصبوب في الرحم { ثُمَّ } عيّنا أركان أجسامكم { مِن مُّضْغَةٍ } أي: لحم متكون من الدم المنعقد { مُّخَلَّقَةٍ } كاملة الخلقة سوية الأجزاء بلا عيب ولا نقصان، قابلة الفطرة للمعرفة والهداية والرشد التام { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ناقصة الخلقة معيوبة الأجزاء، منحطة عن درجة الكمال كل تلك التبديلات والتغييرات منَّا دليل على كما قدرتنا وإرادتنا ووثوق حكمنا وتدبيراتنا إما أظهرناها { لِّنُبَيِّنَ } ونظهر { لَكُمْ } كمال قدرتنا المتعلقة على جميع المقدورات المتحققة، والمقدرة على السوية بلا فتور وقصور.
{ وَ } بالجملة { نُقِرُّ } ونثبت الولد { فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ } ونريد ثبوته ذكراً أو أنثى، مبدِّلين مغيرين من صورة إلى أخرى مراراً كثيرة، { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } سميناه وعيناه في حضرة علمنا لتسويته وتعديله { ثُمَّ } بعدما سويناه وعدلنا أركان جسمه على الوجه الذي تقتضيه حكمتنا، ونفخنا فيه من روحنا؛ إذ نفخُنا الروح فيه علة غائية لإيجاده وإظهاره { نُخْرِجُكُمْ } أي: كلا منكم من بطون أمهاتكم { طِفْلاً } محتاجاً إلى الرضاعة والحضانة { ثُمَّ } نربيكم بأنواع التربية والتغذية، ونقوي مزاجكم ومشاعركم على التدريج { لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ } أي: كمال رشدكم وقوتكم الجسمانية، وتثمروا من المعارف والحقائق ما جبلتم لأجلها إن وفقوا من قبلنا { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ } بعدما بلغ أشده ورشده أو قبل بلوغه { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } وهو سن الكهولة والهرم المستلزم للخرافة ونقصان العقل وضعف القوى والآلات { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ } متعلق منه بمعلوم مخصوص { شَيْئاً } من أمارات ذلك المعلوم وصار عنده كأنه لم يلتفت إليه قط لغلبة الغفلة والنسيان عليه وسقوط الحفظ والإدراك عنه، كل ذلك إنما هو لإظهار قدرتنا الكاملة، وإرادتنا التامة الشامة { وَ } لا تتعجب من كمال قدرتنا، ومتانة صنعتنا، وحكمتنا أمثال هذا، أما { تَرَى } أيها الرائي { ٱلأَرْضَ } الممهدة المبسوطة كيف كانت { هَامِدَةً } يابسة متينة جامدة بعيدة عن الرطوبة والخضرة كالرماد { فَإِذَآ أَنزَلْنَا } وقت تعلق قدرتنا وإرادتنا بإحيائها ونضارتها { عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ } المشتمل على خاصة الحياة { ٱهْتَزَّتْ } وتحركت اهتزازاً شوقياً { وَرَبَتْ } وارتفعت من حضيض الخمود والجمود طالباً الخروج إلى فضاء الهواء والعروج إلى غاية ما أعد له من الكمال { وَ } بعد حركتها وارتفاعها متشوقة { أَنبَتَتْ } وأظهرت بإقدارنا إياها { مِن كُلِّ زَوْجٍ } نوع وصنف مما يخرج من الأرض { بَهِيجٍ } [الحج: 5] رائق عجيب، وهذا من أوضح الدلائل والبراهين عند ذوي النهى واليقين على البعث، وإعادة المعدوم، وجميع المعتقدات الأخروية.
{ ذٰلِكَ } المذكور من إيجاد المقدورات التي تستبعدها العقول السخيفة والأحلام الردية الضعيفة { بِأَنَّ ٱللَّهَ } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { هُوَ ٱلْحَقُّ } الثابت المحقق المقصور على الحقية والثبوت لا متحقق في الوجود سواه، ولا معبود يُعبد بالحق إلا هو { وَأَنَّهُ } سبحانه بخصوصه المقتدر هو الحي القيوم المحيي { يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } بالإرادة والاختيار { وَأَنَّهُ } بذاته وأسمائه وصفاته هو القادر بالاستقلال { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } دخل تحت قدرته وحيطة حضرة علمه وإرادته بالاستقلال { قَدِيرٌ } [الحج: 6] بلا فتور وقصور ولا تزلزل وعثور.
{ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ } الموعودة المعهودة من عنده { آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } إذ هي من جملة مقدورات الله التي قدر وجودها في لوح قضائه وحضرة علمه { وَأَنَّ ٱللَّهَ } المتصرف بالاستقلال والاختيار { يَبْعَثُ } يوم الحشر { مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج: 7] من النفوس الخيرة والشريرة، ثم يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.