التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٢١
وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
٢٢
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٢٣
فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ
٢٤
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ
٢٥
قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
٢٦
فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٢٧
-المؤمنون

تفسير الجيلاني

{ وَإِنَّ لَكُمْ } أيها المتأملون في نعمنا، المعتبرون في أنعامنا { فِي ٱلأَنْعَامِ } والدواب التي ينعمون بها من عندنا { لَعِبْرَةً } عظيمة إلى كمال قدرتنا وجلالة نعمتنا لو تعتبرون منها إذ { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } من الأخلاط والنبات لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، مع أنه لا مناسبة بينهما { وَلَكُمْ } أيضاً { فيِهَا } أي: في الأنعام { مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ } من ظهورها وأصوافها وأشعارها وأوبارها وغير ذلك { وَ } أيضاً { مِنْهَا تَأْكُلُونَ } [المؤمنون: 21] من لحومها تقوية لمزاجكم وتقويماً له.
{ وَ } بالجلمة { عَلَيْهَا } أي: على الأنعام في البر { وَعَلَى ٱلْفُلْكِ } في البحر { تُحْمَلُونَ } [المؤمنون: 22].
وبعدما عدَّد سبحانه نعمه التي أنعم بها على بني آدم، شرع في توبيخ من يكفر بها ولم يؤد حق شكرها فقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا } من مقام لطفنا وجودنا { نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } حين انحرفوا عن جادة الاعتدال وانصرفوا عن الاستقامة { فَقَالَ } على مقتضى وحينا أياه منادياً إياه ليقلبوا إليه على مقتضى شفقة النبوة والرسالة وعطف الهدايا والإرشاد:{ يٰقَوْمِ } أضافهم إلى نفسه إمحاضاً للنصح وإظهاراً لكمال الإشفاف { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } الواحد الأحد الصمد الذي
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 3-4] واعلموا أنه { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ } يعبد بالحق ويستحق بالعبادة { غَيْرُهُ أَ } تتخذون إلهاً سواه { فَلاَ تَتَّقُونَ } [المؤمنون: 23] وتحذرون عن بطشه وانتقامه بأنواع العذاب والنكال.
وبعدما ظهر بدعوى الرسالة وأظهر الدعوة على الوجه المذكور: { فَقَالَ ٱلْمَلأُ } أي: الأشراف { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة عبدوها كعبادة الله لضعفاء العوام ترويجاً لكفرهم وتحقيراً لدعوته { مَا هَـٰذَا } الرجل الحقير المدعي للرسالة والنبوة من الله { إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } بل أضعفكم حالاً وأدناكم عقلاً ومالاً { يُرِيدُ } مع حقارته ودناءته { أَن يَتَفَضَّلَ } ويتفوق { عَلَيْكُمْ } بهذه الدعوة الكاذبة والافتراء الباطل { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } إرسال رسول { لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } إذ هم أولى وأليق بالإرسال من عنده، ولهم مناسبةُ مع الله بخلاف من البشر، فإنهم لا مناسبةَ لهم معه سبحانه، مع أنَّا { مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا } أي: برسالة البشر من الله { فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } [المؤمنون: 24] أي: لم يعهد هذا في الزمان السابق أصلاً.
بل { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أي: ما هذا المدعي للرسالة من عند الله إلا رجلٌ عُرض له جنونُ فاختل دماغه وذهب عقله؛ فيتخبطه الشيطان ويتفوه بأمثال هذه الهذيانات المستبعدة المستحيلة { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ } وأهملوه وانتظروا في أمره، ولا تميلوا إليه ولا تلتفتوا نحوه { حَتَّىٰ حِينٍ } [المؤمنون: 25] ليظهر لكم خبطه واختلاله، أو يفيق عما هو عليه ويعود على ما كان.
ثم لما سمع منهم نوح عليه السلام ما سمع من التجهيل والتسفيه أَيس منهم وقنط عن إيمانهم فـ { قَالَ } مشتكياً إلى الله مستعيناً منه: { رَبِّ } يا من ربَّاني بأنواع الكرم وأرسلني إلى هؤلاء الضالين عن سواء سبيلك لأرشدهم وأهديهم إلى توحيدك، فبلغتُ ما أُرسلتُ به إياهم، فلم يقبلوا مني فكذبوني وسفّهوني { ٱنصُرْنِي } بإهلاكهم وتعذيبهم { بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون: 26] أي: بدل تكذيبهم إياي وسببه.
{ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } أنجازاً لما أوعدنا إياهم من العذاب والهلاك بعد تكذيبهم رسلونا وما جاء به من عندنا من الإيمان والتوحيد { أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ } أي: أعمال السفينة، ولا تخف عن فساها بعدم تعلمك من أحدٍ بل اصنعها { بِأَعْيُنِنَا } أي: يحفظنا إيَّاك نحفظك عن عروض الخطأ والفساد في صنعها { وَوَحْيِنَا } أي: بأمرنا وتعليمنا لك كيفية صنعها، ولا تبال بتسفيههم واستهزائهم معك ونسيتك إلى الخبط والجنون وأنواع الأذيات { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } الوجوبي المتعلق بإغراقهم واستئصالهم { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } المعينُ المعهودُ، فدلق ونبع الماء منه نبعةً { فَٱسْلُكْ } وأَدْخل على الفور فيها { فِيهَا } أي: في السفينة { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي: من نوع الحيوانات اثنين ذكراً وانثى؛ إبقاءً لجميع الأنواع في العالم { وَ } اسلك أيضاً { أَهْلَكَ } ومن ينتمي إليك قرابةً وديناً { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } والحكم منَّا في لوح قضائنا بأنه من الهالكين { مِنْهُمْ } أي: من أهلك، أي: أَدْخِل جميع أهلك سوى من مضى قضاؤنا بغرقه وإهلاكه وهو ابنه كنعان { وَ } بعدما سبق قضاؤنا لإهلاك من كفر من أهلك { لاَ تُخَاطِبْنِي } يا نوح، ولا تدعُ إليّ في حق من سبق الحكم مني بغرقه ولا تسع { فِي } خلاص القوم { ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } على أنفسهم بالعرض على عذابنا { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [المؤمنون: 27] معدودون من عدد الغرقى الهلكى، ولا أثر لدعائك لهم بعدما صار الأمر منَّا مقضياً والحكم مبرماً.