{ فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ } يا نوح، وتمكنت { وَمَن مَّعَكَ } من المؤمنين { عَلَى ٱلْفُلْكِ } وصرتم متمكنين متعززين عليها { فَقُلِ } شكراً لما أنعمنا عليك من إنجاز النصرة المعهودة الموعودة وإهلاك الله وغير ذلك من النعم العظام: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا } من كمال جوده وسعة رحمته { مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [المؤمنون: 28] الخارجين عن مقتضى العقل والشرع عتواً وعناداً.
{ وَقُل } أيضاً بعدما مكنت على سفينة النجاة: { رَّبِّ أَنزِلْنِي } بفضلظ ولطفك { مُنزَلاً مُّبَارَكاً } كثيرَ الخير والبركة { وَأَنتَ } من كمال جودك { خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ } [المؤمنون: 29] لو فرض مُنزِل غيرك مع أنه لا مُنزِلَ سواك، ولا وجود لغيرك؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ } المذكور من قصة نوحٍ مع قومه ونجاته وإهلاكهم، و تعليم صنع السفينة عليه، وإخراج الماء من التنور المعهود، وإحاطته على وجه الأرض كلها، ونجاة من كان في سفينته وغير ذلك من الأمور البديعة { لآيَاتٍ } دلائلَ واضحات على كمال قدرتنا وإرادتنا واختبارنا في عموم أفعالنا على المعتبرين المتأملين في بدائع الأمور وغرائبه، الناظرين بعيون العبرة والاستبصار في حدوث هذه الوقائع الهائلة { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [المؤمنون: 30] أي: أن الشأن والأمر أنَّا بإحداث هذه الحوادث مع قوم نوح لمختبرون مجرَّبون عموم عبادنا؛ لننظر من يعتبر ويتعظ بها منهم، وما هي إلا تذكرة وتذكير منا إياهم.
{ ثُمَّ } بعد إهلاك قوم نوح وإغراقهم { أَنشَأْنَا } وأظهرنا من ذرية من في سفينة نوح عليه السلام { مِن بَعْدِهِمْ } من بعد نوحٍ، ومَن معه في السفينة { قَرْناً آخَرِينَ } [المؤمنون: 31] هم عادُ وثمودَ فانحرفوا أيضاً عن جادة التوحيد.
{ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً } ناشئاً { مِّنْهُمْ } ابتلاءً لهم واختباراً لمن اعتبر منهم، فقال على مقتضى وحينا وإلهامنا إياه: { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والوجود، واعلموا أنه { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ } يُعبد له ويُرجع إليه { غَيْرُهُ أَ } تتخذون إلهاً غيره وتعبدون له ظلماً وزوراً، وتتضرعون نحوه في الوقائع والخطوب { فَلاَ تَتَّقُونَ } [المؤمنون: 32] عن غضبه، ولا تخافون عن قهره وانتقامه.
{ وَ } بعدما بلّغهم الرسول الموحي به { قَالَ ٱلْمَلأُ } أي: الأشراف { مِن } قومه عتواً واستكباراً لضعفاء العوام، وهم { قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله باتخاذ الأصنام آلهةً وأنكروا وحدة الإله { وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ } ويوم الجزاء وجميع المواعيد الموعودة فيها { وَ } مع كفرهم وشركهم، وإنكارهم بالنشأة الأخرى { أَتْرَفْنَاهُمْ } بوفور نعمنا إياهم { فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا } إمهالاً لهم: { مَا هَـٰذَا } المدَّعي الكاذب { إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } لا مزيةَ له عليكم { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون: 33].
{ وَ } الله { لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً } فيما يأمركم من تلبيساته وتغريراته مع أنه { مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ } في إطاعتكم وانقيادكم لبني نوعكم { إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [المؤمنون: 34] خسراناً غظيماً لا خسرانَ أعظم منه؛ إذ هو خسرانُ العقل والإدراك، وتذليلُ النفس العزيزة بمثله تغريراً. { أَ } تسمعونه وتقَبلون منه إيها المجبولون على الدربة والدارية ما { يَعِدُكُمْ } من الخرافات المستبعدة عن الإدراكات، وذلك { أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً } رفاتاً بحيث تفرقت أجزاؤكم إلى أن صارت هباءً وعدماً صرفاً { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [المؤمنون: 35] بعد هذا من التراب، معادون إلى ما كنتم عليه؟!.