{وَ} إذا علمتم أن مناط أمركم في عملكم المقرِّبة إلى ربكم على وجه الإخلاص والخضوع، فعليكم بأجمعكم أن تداوموا وتلازموا عليها {إِنَّ هَـٰذِهِ} الطريقة المعهودة المذكورة لكم من ربكم {أُمَّتُكُمْ} أي: قدوتكم وقبلتكم، موصلةُ إلى توحيد ربكم لذلك صارت {أُمَّةً وَاحِدَةً} لا تعددَّ فيها ولا اختلافَ أصلاً، وإن كانت جهاتها مختلفةً متعددةً بحسب اختلاف الشرائع والأديان على مقتضى الأعصار والأزمان {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر، الذي لا أكون عرضةً للتعدد والكثرة أصلاً {فَٱتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] عن أخذي وبطشي ومتقضيات جلالي وقهري؛ إذ لا ملجأ لكم غيري.
ومع ذلك {فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: دينهم الواحد وملتهم الواحدة {زُبُراً} قِطعاً مختلفةً وأحزاباً متفاوتةً ومِلَلاً متخالفةً، يدعي كل منهم حقية دينه وملته، فصار {كُلُّ حِزْبٍ} منهم {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدين والملة {فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] مسرورون معجَبون.
{فَذَرْهُمْ} بعدما تحزبوا وانحرفوا عن التوحيد وانصرفوا عن جادته، واتركهم على حالهم يعمهون {فِي غَمْرَتِهِمْ} أي: جهلهم وغوايتهم {حَتَّىٰ حِينٍ} [المؤمنون: 54] أي: حين انكشاف الغطاء عن بصائرهم والعماءِ عن أبصارهم فعاينوا العذاب، ولم يمكنهم ردّه والنجاة منه فيهلكوا صاغرين.
{أَيَحْسَبُونَ} ويعتقدون أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} ونعطيهم إمداداً لهم وإعانةً عليهم {مِن مَّالٍ} ملهٍ لنفوسهم ومشغلٍ لقلوبهم {وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] يستعبدون نفوسهم ويسترقون أعناقهم.
{نُسَارِعُ} ونبادرُ {لَهُمْ فِي} نيل {ٱلْخَيْرَاتِ} تفضلاً منا إياهم؛ لذلك يباهون ويفتخرون بها، ويتفرقون على من دونهم لأجلهما {بَل} هو استدراجُ منا إياهم، وإمهالُ لهم كي يحصّلوا أسباب أشد العذاب وأسوأ العقوبات، ويستحقوا بواسطتها أسفل دركات النيران {لاَّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] الاستدراج من الكرامة، فحلموا عليها وبأهوائها، فيسعلمون مصيرهم ومنقلبهم إلى أين.
ثم قال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] خائفون حذرون متحرزون.
{وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ} النازلةِ على رسله {يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 58] يصدقون ويذعنون.
{وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59] بل يستقلونه بالوجود ولا يثبتون لغيره وجوداً، ولا يسندون الحوادث إلى الأسباب العادية بل يسندون كلها إليه أولاً، وبالذات.
{وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} من الأعمال والصدقات ومطلق الحسنات {وَّقُلُوبُهُمْ} في حال إتيانها {وَجِلَةٌ} خائفةُ مستوحشةُ بسبب {أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] بهذه الأعمال والحسنات، هل يقبل منهم أو يرد عليهم، وهم دائاً بين الخوف والرجاء خائفون عن قهره، راجون من لطفه.
{أُوْلَـٰئِكَ} السعداء المحسنون الأدب مع الله، المخلصون في أعمالهم {يُسَارِعُونَ} أي: يرغبون ويبادرون {فِي ٱلْخَيْرَاتِ} وأنواع الطاعات والعبادات والحسنات، راجين أنواع الكرامات والمثوبات من الله {وَهُمْ لَهَا} أي: للحسنات وأنواع الخيرات والمبرَّات دائماً {سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] سارعون ساعون مبادرون.
{وَ} اعلموا أيها المكلفون بأنواع التكاليف المصفية لظواهركم وبواطنكم {لاَ نُكَلِّفُ} ولا نحتمِّل {نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: مقدار وسعِها وطاقتِها على ما هو مقتضى استعداداتهم وقابليتهم، وكيف نكلفهم بما لا طاقة لهم {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} جامعُ لجميع أحوال ما حدث وكان، ويحدث ويكون، وهو لوحُ قضائنا وحضرةُ علمنا مع أنه {يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ} السويّّ الثابت المطابق للواقع بلا إفراط وتفريط {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 62] بزيادة العذاب ونقصان الثواب، بل كل منهم مجزيُ بمقتضى ما ثبت فيه.
والكفار من غاية انهماكهم في الغفلة والضلال ينكرون لكتابنا الجامع لجميع الكوائن والفواسد الناطق بالحق المطابق للواقع {بَلْ قُلُوبُهُمْ} التي جبلت وعاءً للإيمان والتصديق {فِي غَمْرَةٍ} أي: غطاءٍ وغشاوةٍ {مِّنْ هَـٰذَا} الطريق الذي يترتب عليه الفلاح والفوز بالنجاح، وهو طريق التوحيد والتصديق {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} طالحةُ على مقتضى أهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة {مِّن دُونِ ذٰلِكَ} الأمر الذي تعبدنا بها عبادنا على ألسنة رسلنا {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] وإليها متوجهون دائماً، وعن طريق الحق وسبيل التوحيد ناكبون منصرفون.