التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً
١٨
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
١٩
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
٢٠
-الفرقان

تفسير الجيلاني

{ قَالُواْ } أي: الآلهة مبرئين نفوسهم عن هذه الجرأة والجريمة العظيمة، منزهين ذاته سبحانه عن وهم المشاركة والمماثلة والكفاءة مطلقاً: { سُبْحَانَكَ } ننزهك ونقدس ذاتك يا ربنا عن توهم الشركة في ألوهيتك وربوبيتك، بل في وجودك وتحققك { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ } ويصح منَّا { أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } فكيف يليق بنا أن ندعي الولاية لأنفسنا دونك والاشتراك معك، مع أنَّا لا وجود لنا إلا منك، ولا رجوع لنا إلا إليك، وأنت يا ربنا تعلم منَّا ما في ضمائرنا وأسرارنا واستعداداتنا ونياتنا في جميع شئوننا وقابلياتنا، وأنت تعلم أيضاً منا يا مولانا لا علم لنا باتخاذهم أولياء، ولا إضلال وتقرير من قَبَلنا إياهم { وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ } أنت بمقتضى فضلك وجودك بأنواع النعم وأصناف الكرم { وَ } كذا متعت { آبَآءَهُمْ } كذلك، وأمهلتهم زماناً مترفهين مستكبرين { حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ } أي: ذكر المنعِم، وغفلوا عن شكر نعمه، واتخذوا على مقتضى أهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة أرباباً من دونك وعبدوها كعبادتك عتواً واستكباراً { وَ } بالجملة: هم { كَانُواْ } مقدَّرين مثبتين في لوح قضائك { قَوْماً بُوراً } [الفرقان: 18] هالكين في تيه الغفلة والضلال، من أصحاب الشقاوة الأزلية الأبدية لا يُرجى منهم السعادة أصلاً.
ثم قيل للمشركين من قِبل الحق: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } آلهتكم أيها الضالون { بِمَا تَقُولُونَ } أنهم آلهتنا، أو بما يقولون هؤلاء وأضلونا، أو بقولكم: هؤلاء شفعاؤنا { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } أي: فالآن ظهر ولاح أن آلهتكم وشفعاءكم لا يقدرون { صَرْفاً } من عذابنا شيئاً { وَلاَ } يقدرون أيضاً { نَصْراً } لكم؛ لتصرفوا عذابنا عن نفوسكم بمعاونتهم، ولا شفاعة عندنا؛ لتخفيف العذاب عنكم { وَ } بالجملة: { مَن يَظْلِم مِّنكُمْ } أيها لامشركون نفسه باتخاذ غيرنا إلهاً عناداً ومكابرة، ولم يتب عن ذلك حتى خرج من الدنيا عليه { نُذِقْهُ } الأمر؛ أي: يوم الجزاء { عَذَاباً كَبِيراً } [الفرقان: 19] لا عذاب أكبر منه.
ثم أشار سبحانه إلى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم عما عيره الجهلة المستهزئون معه بقولهم:
{ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ... } [الفرقان: 7] { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ } رسولاً { مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } كما تأكل أنت وسائر الناس { وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } لحوائجهم كما تشمي أنت وغيرك.
وامتياز الرسل والأنبياء من العوام إنما يكون بأمورٍ معنوية لا اطلاع لأحد عليها سوى من اختارهم للرسالة والنبوة، وهم في ظوهر أحوالهم مشتركون مع نبي نوعهم بل أسوأ حالاً منهم في ظواهرهم؛ لعدم التفاتهم إلى زخرفة الدنيا العائقة عن اللذة الأخروية، ولهذا ما من نبي ولا رسول إلا وقد عيرهم العوام بالفقر والفاقة إلا نادراً منهم.
{ وَ } بالجملة: من سنتنا أنَّا { جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ } أيها الناس { لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أي: بسبب ابتلائه ومحنة واختبار، من ذلك ابتلاء الفقراء بتشنيع الأغنياء، وتعيير النبيين والمرسلين باستهزاء المنكرين المستكبرين، والمرضى بالأصحاء، وذي العاهة بالسالم إلى غير ذلك، وإنما جعلناكم كذلك؛ لنختبر وتعلموا { أَتَصْبِرُونَ } أيها المصابون بما أصابكم من البلاء فتفوزون بجزيل العطاء وجميل اللقاء أم لا؟ { وَ } الحال أنه قد { كَانَ رَبُّكَ } يا أكمل الرسل في سابق قضائه وحضرة علمه { بَصِيراً } [الفرقان: 20] لصبر من صبر، وشكر من شكر من أولي العزائم الصحيحة، ولمن لم يصبر ولم يشكر من ذوي الأحلام السخيفة والاختبار، إنما هو لإظهار الحجة الغالبة البالغة؛ إذ الإنسان مجبول على الجدال والكفران.