التفاسير

< >
عرض

وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً
٥٨
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً
٥٩
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً
٦٠
تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً
٦١
وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
٦٢
-الفرقان

تفسير الجيلاني

{ وَ } إن انصرفوا عنك وأعرضوا عن هدايتك وإرشادك، وقصدوا تعنتك وقتلك عداوناً وظلماً، فلا تبالِ يا أكمل الرسل بهم وبشأنهم ولا تحزن عن أمرهم، بل { تَوَكَّلْ } في مقابلتهم ومقاوتهم { عَلَى ٱلْحَيِّ } القيوم { ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } أي: لا يعرضه الموت والفناء { وَسَبِّحْ } ربك ونزهه عما لا يليق بشأنه مقارناً تسبيحك { بِحَمْدِهِ } على آلائه ونعمائه الفائضة عليك على التعاقب والتوالي، سيما على ما اصطفاك من بيت البرايا، وأعطاك الرئاسة والسيادة على كافة الأنام، والرسالة على قاطبة الأمم، بلغ ما أنزل إليك ولا تفرح من إيمانهم، ولا تحزن على كفرهم وطغيانهم { وَ } اعلموا أنه { كَفَىٰ بِهِ } أي: كفى الله سبحانه عالماً { بِذُنُوبِ عِبَادِهِ } ما ظهر منهم وما سيظهر، وما بطن في استعداداتهم، وكن في قابلياتهم { خَبِيراً } [الفرقان: 58] مطلعاً بصيراً على وجه الحضور والشهود لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء منها، مجازياً قديراً، ومنتقماً عزيزاً يجازيهم بقدرته على مقتضى اطلاعه وخبرته.
وكيف لا يعلم ويطلع سبحانه بجميع ما ظهر وبطن، وهو { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } أبدعهما وأظهرما { وَمَا بَيْنَهُمَا } من كتم العدم بلا سبق الهيولي والزمان { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي: على عدد الجهات والأقطار المحفوفة بجميع الكوائن والفواسد { ثُمَّ } بعدما كمل ترتيبها على أبلغ نظام { ٱسْتَوَىٰ } وتمكن وانبسط { عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي: على عروش جميع المظاهر بالاستيلاء التام والبسطة العامة { ٱلرَّحْمَـٰنُ } الذي وسعت رحمته كل ما ظهر وبطن، غيباً وشهادة.
{ فَسْئَلْ بِهِ } أي: بما ذكر من خبرة الله وإحاطة علمه وقدرته وإظهاره ما ظهر وبطن عيناً وشهادةً، وإحاطته واستيلائه على عروش الرحمن بالرحمة العامة { خَبِيراً } [الفرقان: 59] ذا خبرة يخبرك بصدقها من أرباب القلوب الواصلين إلى مرتبة الكشف وعموم الشهود ممن سبقت لهم العناية الأزلية، والجذبة الجالية الغالبة من قبل الحق، المفنية لهم عن أنانياتهم، المبقية لهم ببقاء الحق.
{ وَ } مع ظهور استيلاء الحق وانبساطه على عروش ذرائر الأكوان { إِذَا قِيلَ لَهُمُ } على سبيل الإيقاظ عن نعاس النسيان، والتنبيه عن نومة الحرمان: { ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ } المظهر لكم من كتم العدم بسعة رحمته وجوده { قَالُواْ } منكرين له مع كمال ظهوره مستفهمين على سبيل الاستغراب والاستعباد: { وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ } الذي تدعوننا إلى سجوده؟ أتوا بالسؤال بلفظة (ما) من كمال نكارته عندهم وشدة إنكارهم عليه، قائلين: { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي: لكل شيء تأمرنا بسجوده أنت من تلقاء نفسك { وَزَادَهُمْ نُفُوراً } [الفرقان: 60] أي: ما زاد دعوتك إياهم وإرشادك لهم إلا نفوراً عن الحق و طريق توحيده؛ لخبث طينتهم وشدة شكيمتهم، وكمال غيهم وقسوتهم.
وكيف تنفرون وتنصرفون هؤلاء الجاهلون الغافلون عن سجوده سبحانه، مع أنه { تَبَارَكَ } وتعالى عن شأنه، عن أن ينصرف عنه وينفر منه أحد من عباده، مع كثرة خيراته وبركاته عليهم؛ لأنه { ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ } أي: العلويات { بُرُوجاً } لتكون منازل للكواكب المدبرة للأمور الأرضية { وَ } بعدما هيأها سبحانه على أبلغ النظام { جَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } أي: شمساً دائرة من برج إلى برج { وَقَمَراً مُّنِيراً } [الفرقان: 61] منقلباً من منزل إلى منزل من المنازل المذكورة؛ ليحصل من دورها وانقلابها الفصول الأربعة المصلِحة لأحوال ما في السفليات من المواليد الثلاثة.
{ وَ } كيف تغفلون عن الصانع الحكيم إيها الضالون { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } متعاقبة متجددة، فخلف أحدهما الآخر؛ ليكون مرصداً وميقاتاً { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } ويتذكر آلاء الله المتوالية المتتالية عليه، الفائضة من عنده على تعاقب الأوقات والساعات { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62] أي: أراد يشكر على نعمائه الواصلة إليه في خلالهما.