التفاسير

< >
عرض

طسۤمۤ
١
تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
٣
إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
٤
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ
٥
فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
٧
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٩
-الشعراء

تفسير الجيلاني

{ طسۤمۤ } [الشعراء: 1] يا طالب السعادة والسيادة المؤبدة المخلدة، ويا طاهر الطينة والطوبة من أدناس الطبيعة البشرية، ويا سالم السر والسريرة من العلائق الناسوتية البشرية، ويا ماحي آثار الرذائل المكدرة لصفاء شراب التوحيد.
{ تِلْكَ } الآيات العظام المذكورة في هذه السورة { آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } أي: من جملة آيات القرآن { ٱلْمُبِينِ } [الشعراء: 2] المبين المظهر لدلائل التوحيد، الموضح للبينات والبراهين القاطعة الدالة على حقية دينكن إنما أنزلناها يا أكمل الرسل تأييداً لأمرك وتعظيماً لشأنك، فلك أن تبلغها على قاطبة الأنام وعامة المكلفين على الوجه الذي تُلي وأُوحي إليك بلا التفاتٍ منك إلى إيمانهم وكفرهم، وتصديقهم وتكذيبهم، بل ما عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب.
إلاَّ أنك من فرط محبتك لإيمانهم بك وبدينك وكتابك { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ } هالك قاتل { نَّفْسَكَ } تحسراً وتحزناً { أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3] أي: لأجل ألاَّ يكونوا مصدقين لك ولدينك وكتابك، مع أنَّا لا نريد إيمانهم وهدايتهم، بل مضى في قضائنا وثبت في حضرة علمنا كفرهم وضلالهم، وما يبدل القول لدينا، ولا يغير حكمنا.
بل { إِن } أي: إن تعلق إرادتنا ومشيئتنا لإيمانهم { نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً } ملجئة لهم إلى الإيمان والتصديق { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ } أي: صارت حين نزول الآية الملجئة أعناقهم التي هي أسباب كبرهم وخيلائهم من كمال الإطاعة والانقياد { لَهَا } أي: للآية الملجئة النازلة { خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4] منكوسين منكسرين منخفضين، بحيث لا يتأتى لهم الإعراض عنها والتكذيب بها أصلاً.
{ وَ } متى لم تتعلق مشيئتنا لم يؤمنوا، بل { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ } أي: عظةٍ وتذكيرٍ نازلٍ { مِّنَ } قِبَل { ٱلرَّحْمَـٰنِ } تفضلاً عليهم { مُحْدَثٍ } مستبدعٍ على مقتضى الأعصار والأزمان؛ لإصلاح نفوس أهلها من المفاسد والضلال { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ } أي: عن الذكر المحدث { مُعْرِضِينَ } [الشعراء: 5] منصرفين؛ لعدم تعلق مشيئتنا بقبولهم، بل إنما إرسلنا يا أكمل الرسل إليهم، وأمرنا بدعوتهم و تبليغهم؛ ليتعظ ويتذكر منهم ممن سبقت له العناية الأزلية من خلَّص عبادنا، وتعلقت إرادتنا بهدايتهم ورشدهم في أصل فطرتهم واستعدادهم، وبعدما بلغت إليهم الذكر والعظة المهذِّبة لقلوبهم عن رين الكفر والشرك العارض لهم من قبل آبائهم وأسلافهم سمعوا سمع قبولٍ ورضاءٍ؛ إذ كل ميسر، موفق لما خلق له.
وأمَّا المجبولون على فطرة الشقاوة، المطبوعون على قلوبهم بغشاوة الغفلة والضلال { فَقَدْ كَذَّبُواْ } بها حين سمعوها، ولم يقتصروا على تكذيبها فقط، بل استهزؤوا بها وبك يا أكمل الرسل عتواً واستكباراً، فلا تلتفت إليهم ولا تبالِ بهم وبإيمانهمم { فَسَيَأْتِيهِمْ } عن قريب { أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الشعراء: 6] فظره حينئذٍ أحق حقيق بأن يُنقاد ويُتبع، أم هو باطل يجب تكذيبه والانصراف عنه؟!.
وكيف ينكرون بآياتنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، أولئك المعرضون عناداً ومكابرةً؟! { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } ولم ينظروا ويتفكروا حتى يعتبروا، مع أنهم من أهل النظر والاعتبار { إِلَى } عجائب { ٱلأَرْضِ } اليابسة الجامدة { كَمْ أَنبَتْنَا } من كمال قدرتنا ووفور حكمتنا { فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أجناس كثيرة من النباتات والحيوانات والمعادن و غير ذلك مما لا اطلاع لهم عليه؛ إذ ما يعلم جنود ربك إلا هو، { كَرِيمٍ } [الشعراء: 7] كلها ذوي الكرامات و البركات، والمنافع والخيرات.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: في إنبات كل من أنواع النبات، وإخراج كل من أصناف الحيوانات، وأجناس المعادن منها { لآيَةً } بينة واضة، قاطعة دالة على أن منبتها ومخرجها متصف بجميع أوصاف الكمال، ونعوت الجمال والجلال، فاعل بالاختيار والاستقلال بلا مزاحمة الأشباه والأمثال { وَ } هي وإن كانت في غاية الوضوح والجلاء، لكن { مَا كَانَ } وثبت { أَكْثَرُهُمْ } أي: أكثر الناس { مُّؤْمِنِينَ } [الشعراء: 8] موفقين على الإيمان والتوحيد في علم الله ولوح قضائه؛ لذلك لم يؤمنوا بالآيات العظام، ولم يستدلوا منها إلى وجود الصانع الحكيم العلام القدوس السلام، المنزَّه ذاته عن طريان التقضي والانصرام.
{ وَ } إن كذبوك يا أكمل الرسل بما جئت من الآيات العظام، وعاندوا معك لا تبالِ لهم ولا تحزن { إِنَّ رَبَّكَ } الذي رباك بأنواع الكرامات { لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب المقتدر على البطش والانتقام { ٱلرَّحِيمُ } [الشعراء: 9] الحليم الذي لا يعجِّل العذاب وإن استوجبوا، بل يمهلهم زماناً؛ لعلهم يتنبهون على ما فرطوا من سوء المعاملة مع الله ورسوله وآياته فيتوبوا نادمين ضارعين خاشعين.