التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ
٦٧
لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٦٩
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
٧٠
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٧١
قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ
٧٢
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٤
وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٧٥
-النمل

تفسير الجيلاني

{ وَ } من شدة إنكارهم وتكذيبهم { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } بالله وبجميع ما وعد سبحانه في يوم العرض والجزاء، على سبيل الاستبعاد والاستنكار مستفهمين مستهزئين: { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ } أيضاً كذلك { أَإِنَّا } وهم { لَمُخْرَجُونَ } [النمل: 76] من قبورنا أحياة على الوجه الذي كنا عليه في مدة حياتنا قبل طريان الموت علينا، كلا وحاشا؛ إذ هو من جملة الأمور المستحيلة التي تأبى العقول عن قبولها.
ولا منشأ له سوى أنَّا { لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا } أي: البعث والحشر { نَحْنُ } اليوم على هذا المدعي للرسالة والنبوة { وَ } وعد { آبَآؤُنَا } أيضاً { مِن قَبْلُ } على ألسنة المدعين الآخرين الذين مضوا، وكان أسلافهم أيضاً كذلك على ألسنة أسلاف آخرين مدعين وهكذا، وبالجملة: { إِنْ هَـٰذَآ } أي: ما هذا الوعد بالبعث والجزاء { إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [النمل: 68] أي: أكاذيبهم الموروثة لأخلافهم اللاحقين المتأخرين عنهم، وبالجملة: ها ديدنة قديمة، وعادة مستمرة بقيت بين الأنام من قديم الأيام؛ لتخويف العوام بلا وقوع ولا إمكان وقوع أيضاً.
ثمَّ لمَّا بالغ أولئك الهالكون في تيه الضلال في تكذيب يوم الجزاء، وأصروا على ما هم عليه من الكفر والإنكار من متابعة الأهواء والآراء { قُلْ } يا أكمل الرسل كلاماً خالياً عن وصمة المجادلة والمراء، وما درأ عن محض العبرة والحكمة والاستبصار آمراً لهم على سبيل الاعتبار: { سِيرُواْ } أيها المنكرون المكابرون ليوم العرض والجزاء { فِي ٱلأَرْضِ } التي هي محل العبرة ونزول الاستبصار { فَٱنظُرُواْ } معتبرين متأملين { كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ } [النمل: 69] المكذبين كمال قدرة الله القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بلا فتور ولا قصور.
ولا ينتهي قدرته دون مراد ومقدور، بل له إعادته كما له إبراؤه من جمع أجزائه ولوازمه وعوارضه من الزمان والمكان، والحركات والسكنات، وجميع الأطوار والأحوال الطارئة عليها من مبدأ حدوثها إلى منتهى حياتها؛ إذ جميع ما جرى عليه وصدر عنه حاضر عنده سبحانه، غير مغيب عنه بلا انقضاء في حضرة علمه، وإمضاء من لوح قضائه؛ إذ عنده سبحانه لا زمان ولا مكان؛ حتى يتصور الانقراض والانقضاء، واستبعاد هذه المسألة إنما يجيء من العقول السخيفة، والأحلام الضعيفة المحبوسة؛ لمضيق الزمان والمكان المتحصنة بحصون الجهات والأبعاد المقيدة بسلاسل الأيام وأغلال الليالي.
ومن انكشف له بصر بصيرته، وارتفع عنه سبل السدل وحول التحويل، ومدد التغير والتبديل، واكتحل عن عبرته بكحل الكشف والشهود، اضمحل دونه الزمان والاستمرار ولم يبقَ في عين عبرته وشهوده سوى الله الواحد القهار لجميع الأغيار، فسمع عنه وأبصر به وأظهر عليه، وفني فيه وبقي لديه ورجع إليه، وبدأ منه وعاد عليه قائلاً لسان حاله ومقاله:
{ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 156]، { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ } [آل عمران: 53] برحمتك وجودك يا أرحم الراحمين.
{ وَ } بعدما هدد سبحانه مكذبي وعده ووعيده بما هدد، وأقرعهم بما قرع أراد سبحانه أن يسلي حبيبه صلى الله عليه وسلم بما لحق له من أذى المنكرين المكذبين بقوله: { لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } إن كذبوك وأعرضوا عنك يا أكمل الرسل { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ } وسآمة { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [النمل: 70] أي: من مكرهم وحيلهم، فإن الله يكفيك مؤنة شرورهم، وكن في نفسك يا أكمل الرسل واسع الصدر، طلق الوجه، مسرور القلب، فإن الله ناصرك ومعينك في كل الأحوال، يحفظك عن شرورهم ومكرهم وسيغلبك عليهم، ويظهر دينك على الأديان كلها في أقطار الأرض وأنحائها،
{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } [النساء: 6].
{ وَ } من شدة شكيمتهم، وكمال إنكارهم وضغينتهم { يَقُولُونَ } متهكمين: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } والعذاب الموعود؟ وفي أي آنٍ يظهر؟ وأي زمان يقوم؟ عينوا لنا وقته أيها المدعون { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [النمل: 71] في دعواكم وقوعه ونزوله.
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل بعدما اقترحوا عليك وألحوا: { عَسَىٰ } أي: دنا وقرب { أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } أي: تبعكم ولحقكم، واللام للتوكيد { بَعْضُ } العذاب { ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } [النمل: 72] نزوله وحلوله فلحقهم، وهو عذاب يوم بدر.
{ وَ } سيلحقهم عن قريب كلها أيضاً، لكن من سنته سبحانه إمهال عباده زماناً؛ رجاء أن ينتبهوا، ويتوبوا عما أصروا عليه { إِنَّ رَبَّكَ } يا أكمل الرسل { لَذُو فَضْلٍ } عظيم ورحمة واسعة شاملة { عَلَى } جميع { ٱلنَّاسِ } الناسين سوابق عهودهم مع الله المدبر لأحوالهم { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } [النمل: 73] نعمة الإمهال؛ حتى يخلصوا من نقمته وعذابه؛ لذلك لحقهم ما لحقهم من العذاب.
ومن جملة كفرانهم بنعم الحق: إنهم أرادوا أن يخدعوا مع الله ورسوله، ولا يشكروا لنعمه الإرسال والإرشاد، بل ينكروا عليها في نفوسهم، ويظهروا على الناس أنهم مؤمنون مع أنهم ليسوا كذلك؛ وقصدوا بذلك التلبيس والخداع، ولا ينفع لهم هذا.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ } يا أكمل الرسل { لَيَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { مَا تُكِنُّ } وتخفي { صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [النمل: 74] ويظهرونه من إيمان وكفر، وفساد وصلاح، وعهد ونقض؛ إذ لا يخفى عليه سبحانه شيء من أحوال عباده، وما جرى عليهم في ظواهرهم وبواطنهم.
{ وَ } كيف يخفى عليه شيء من أحوالهم؛ إذ { مَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي } طي { ٱلسَّمَآءِ } و{ وَٱلأَرْضِ } حتى النقير والقطمير، وما يعقل ويحس به، ويعبر عنه ويومئ إليه، ويرمز نحوه إلى ما شاء الله { إِلاَّ } مثبت محفوظ { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [النمل: 75] هو لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي الذي فصل فيه جميع ما كان ويكون أزلاً وأبداً؛ بحيث لا يشذ عن حيطته ما من شأنه أن يعلم ويحس به.